اقتراب حذر !!! 
كمال زاخر
[2] الدور العلمانى الذى كان
ينتصف القرن العشرين، فيما يجتاح العالم موجات من التحولات السياسية العاتية، بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) التى اعادت رسم خريطة التحالفات فى العالم، وكذلك الخريطة العسكرية والبنى الاجتماعية، وتوصف هذه الحرب بأنها الأكثر دموية فى تاريخ الحروب، الأمر الذى دفع الحلفاء المنتصرين إلى البحث عن آلية تُجَنّب العالم تكرارها، وحل الصراعات البينية والاقليمية قبل استفحالها، فتم الاتفاق على انشاء منظمة الأمم المتحدة، 1945، فيما افرز الواقع الجديد بروز قوتين عظميين؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، ومعه تبدأ "الحرب الباردة"، التى تجلت فى الصراع بين القوتين فى سباق السيطرة على العالم بدون مواجهات مباشرة بينهما، فانتقل الصراع إلى خارج اراضيهما، وفى تكوين الأحلاف العسكرية والسياسية.
 
لم تكن مصر بعيدة عن الأحداث فعلى ارضها ـ العلمين 1942 ـ تتكبد قوات المحور اكبر انكسار أمام قوات الحلفاء، وكان انتصار ـ الحلفاء ـ فى العلمين، بقيادة مونتجومرى، بداية النهاية. حتى وضعت الحرب اوزارها عام 1945.
 
ينتصف القرن وتشهد مصر ثورة عسكرية فى يوليو 52، استقر لها الأمر بغير عناء، كان من قاموا بها فى مجملهم شباب من الجيش تدور اعمارهم حول الثلاثين، ورتبهم من القيادات الوسيطة، يقودهم اللواء محمد نجيب. اللافت أنهم جميعهم من المصريين المسلمين، وإن تردد وجود واحد أو أكثرمن الضباط لمصريين المسيحيين فى الصف الثانى منهم، لكنها معلومة تحتاج إلى توثيق.
 
ورغم تعدد الانتماءات السياسية لقيادات الثورة، إلا أن علاقتهم مع جماعة الإخوان المسلمين كانت جلية وواضحة، يدعم هذا الرأى تأثرهم فى تشكيل وزارة الثورة أن الوزارة المعنية بالإعلام سميت "وزارة الإرشاد" تأسياً بمكتب ارشاد الجماعة، وسرعان ما انفض التحالف بينهما بسبب النزاع على الولاية والسلطة، ويتم الاطاحة باللواء محمد نجيب، فبراير 1954، ليبزغ نجم الكباشى (الرائد) جمال عبد الناصر، ليصبح قائداً للثورة ثم رئيساً للجمهورية.
فى هذا السياق يجتمع نفر من شباب الأقباط ليعلنوا تأسيس جماعة اسموها "جماعة الأمة القبطية" بقيادة الشاب ابراهيم فهمى هلال، تأسست 11 سبتمبر 1952ـ صدر قرار بحلها فى 24 ابريل 1954، واستطاعت خلال عامها الأول أن تضم إلى عضويتها نحو 90 الف عضو، ويمكن أن نكتشف توجهاتها عبر المسمى الذى يناظر مسمى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك شعارها "الله ملكنا، ومصر بلادنا، الإنجيل شريعتنا، والصليب رايتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة  فى سبيل المسيح غاية الرجاء"،  ومن يتابع رحلة هذه الجماعة يكتشف أن قرار حلها لم يكن بسبب حادثة خطف البابا يوساب الثانى التى قاموا بها، 26 يوليو 1953، فبعد عودة البابا الى مقره والقبض على العناصر الى ارتكبت هذه الجريمة، ارسل البابا مناشدة لحكومة الثورة بالعفو عنهم "لأنهم أولادى"، وتمت الاستجابة لمناشدته وأفرج عنهم، لعل السبب فى حل هذه الجماعة نكتشفه من استقراء وثائق تلك الجماعة وتخوف الثورة من رؤى هذه الجماعة والتى تجلت فى المذكرة التى تقدمت بها الى لجنة اعداد دستور للبلاد برئاسة الفقيه الدستورى د. عبد الرزاق السنهورى، وفيها مطالب الأقباط فى مشروع الدستور، والذى لم يصدر. وأعقب ذلك تقديم قيادات جماعة الأمة القبطية للمحاكمة وصدرت بحقهم احكام بالسجن لبعض القيادات.   
 
على الأرض كانت هناك منظومة مدارس الأحد التى اسسها الأستاذ حبيب جرجس، وكانت تتبنى مهمة تربية النشء وتعليمهم مبادى الإيمان المسيحى وعقائد وطقوس وتاريخ الكنيسة، وتبنت فى عملها العام توجه الإصلاح الكنسى السلمى، فأسست جمعية وملجأ "مدارس الأحد، وشرعت فى اصدار مجلة شهرية لنشر التعليم الكنسى ونشر مطالبهم الإصلاحية، وفى خطوة عملية سعوا لترشيح الاستاذ حبيب جرجس مطرانا للجيزة بعد خلو كرسيها، وحشدوا افتتاحيات المجلة بالنصوص القانونية التى تدعم رسامة علمانى للأسقفية، واستعانوا فى ذلك، بجوار القوانين الكنسية، بالسوابق التاريخية المماثلة فى رسامة المتبتلين من غير الرهبان، لكن الكنيسة لم تقبل بهذا وخاب مسعاهم.
 
لم يكن التحرك العلمانى القبطى محصورا فى جماعة الأمة القبطية ومنظومة مدارس الأحد، بل كان قبلهم فى العمل الأهلى التطوعى، خاصة فى تأسيس الجمعيات الأهلية، التى تتبنى العمل الاجتماعى بداية من مساعدة الأسر الفقيرة، بمساعدات دورية من تبرعات القادرين والأعيان، وامتدت انشطة الجمعيات إلى انشاء وادارة المدارس والمستشفيات والملاجئ ودور الإيواء، وتخصيص نسبة داخلها لغير القادرين، ومن ابرز هذه المؤسسات مدارس التوفيق ومدارس الإيمان، ومدارس ثمرة المحبة، وغيرها إضافة إلى سلسلة مدارس الأقباط الكبرى التى انشأها البابا كيرلس الرابع، ومن المستشفيات مستشفى القبطى ومستشفى التوفيق ومستشفى دار الشفاء وغيرها سواء فى القاهرة أو المحافظات، ومن ابرز الملاجئ الملجأ البطرسى (نسبة الى بطرس باشا غالى رئيس الوزراء آنئذ)، وملجأ رعاية المكفوفين وآخر لرعاية المكفوفات. وكانت المدارس والمستشفيات تقدم خدماتها لكل المصريين بلا تفرقة، ولعل هذا كان أحد العوامل المهمة فى دعم السلام المجتمعى.
 
فى سياق مواز انتبه اعيان الأقباط ومثقفيهم إلى اتساع رقعة الأوقاف القبطية وانعدام مردوده المخصص لإعانة الفقراء والمشروعات الخيرية وذلك بسبب سيطرة نظار الوقف عليه وادارته لصالحهم، فاتفقوا على تأسيس  كيان قانونى لإدارة الأوقاف؛ العقارات والأراضى الزراعية وكافة الممتلكات الموقوفة، وعرضوا الأمر على البابا البطريرك الانبا كيرلس الخامس فوافق عليه وكذك الدولة التى صادقت عليه ليولد "المجلس الملى". وقد اضيف الى مهامه فيما بعد الفصل فى نزاعات الأحوال الشخصية للأقباط، ولذا تشكلت من خلاله المحاكم الملية، بالتوازى مع المحاكم الشرعية للمصريين المسلمين، وقدر صدر قانون بحلهما فيما بعد فى 1955، واحالة تلك القضايا الى المحاكم المدنية، المعروفة بمحاكم الأحوال الشخصية، والتى فى تعديل لاحق سميت بمحاكم الأسرة.
 
وامتدت خدمة العلمانيين الى داخل الكنيسة إذ اسند اليهم مهمة عظة القداس، فى وجود الكاهن (اسقف أو قمص أو قس) وكان الاكليروس يتفرغ لأداء القداس والصلوات والخدمات الطقسية، فى استيعاب واع لما قال به القديس بولس الرسول فى رسالته الى رومية (وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ، أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ، أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ، أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ، الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ ....)، والأجيال القديمة مازالت تتذكر اسماء الوعاظ؛ بانوب عبده، عياد عياد، فؤاد باسيلى، اسكندر حنا على سبيل المثال.
 
ربما بهذا كانت الكنيسة تترجم التكامل، إذ يتحمل الشمامسة، وهم علمانيون غير متفرغين أو مكرسين، مهمة الوعظ فيما يتفرغ الكاهن للمسئوليات الطقسية ويتفرغ الأسقف لمهمة للتدبير (ادارة ايبارشيته). 
 
فى السياق الكنسى كانت الكنيسة تحتضن كل التيارات والتوجهات فى توازن وتكامل، طالما كانت متسقة مع رسالة الكنيسة، ولم تكن تفرق بين الإكليروس والعلمانيين، بل تعتبرهما جناحا الخدمة، ولم تكن تميز بين الخادم المكرس المتبتل وبين الخادم المتزوج وله اسرة، بل كانت حريصة على سلام المتبتلين النظاميين (الرهبان فى اديرتهم)، تهيئ لهم اجواء الحفاظ على نذورهم، وتستعين بهم فى خدمتها فى اضيق الحدود فتحمى كل الأطراف الدير والراهب وشعب الكنيسة برؤية روحية عملية ثاقبة وواعية. إذ كان للدير خصوصيته ونظامه وانضباطه، وكان للكنيسة خارج الأديرة نظامها وخدمتها وكهنتها المشتبكين مع هموم ومشاكل واحتياجات الرعية، تأسيساً على كونهم مختبرين حياة الأسرة واطوارها.
 
تبلورت فى هذه الحقبة توجهات العلمانيين (المدنيين) الأقباط فى ثلاث محاور:
ــ محور الخدمة الكنسية الطقسية وتراتبيتها.
ــ محور التكريس سواء النظامى (الرهبنة) او التكريس خارج الأديرة.
ــ محور العمل العام عبر الجمعيات والمؤسسات الخدمية.
كان التوازن يحكم العلاقة بينهم وكانت الكنيسة تحصد منه سلاماً وبنياناً وتكاملاً.
على أن هذا التوازن ارتبك ولم يدم بفعل تحولات داخل الكنيسة وخارجها، وهو ما سنحاول تناوله فى مقال تال.