اقتراب حذر !!!

كمال زاخر
الجمعة 13 سبتمبر 2024
[1]

كانت الأرض خربة وخالية، على غرارها كانت غالبية الأديرة القبطية حتى بدايات القرن التاسع عشر، بالكاد يسكن كل واحد منها نفر من الرهبان الشيوخ، منقطعين عن العالم، والدروب اليهم محجرة وغير ممهدة، كانت الحكايات عنهم تشبه الاساطير، والحياة فيها بسيطة وقاسية، يلفها الغموض، تتواتر حولها حكايات عن السحر وعن القداسة، بآن، خاصة عن اديرة الصعيد العتيقة. باستثناء دير الأنبا انطونيوس بالصحراء الشرقية، ودير المحرق بأسيوط إذ كانا مأهولين بالرهبان.

شهدت القرون المتأخرة زيارات متقطعة من المستشرقين المولعين بكل ما هو مصرى، لم تكن الآثار الفرعونية وحدها التى ينقبون عنها، بل كانوا يبحثون عن المخطوطات القبطية بين الأديرة، لم يكن الشيوخ البسطاء  يدركون قدرها، فهى مكتوبة باليونانية او القبطية، وكلاهما انقطع عنها لساننا، الا ما احتفظت به الصلوات الليتورچية والحانها، وحتى هذه نحفظها، ولا يقرأها عن فهم كلغة الا القليل. وهو ما سهل على الرحالة الاستيلاء عليها بحيل مختلفة، وإن اودعوها متاحف ومكتبات الجامعات الكبرى لتجد حقها فى البحث والدراسة.

كان لهذا انعكاسه على الكنيسة خارج نطاق الأديرة وقد اوكلت ادارتها للمختارين من الرهبان، ربما لهذا كانت الايبارشيات تضم اكثر من محافظة أو مديرية بوصف ذاك الزمان، ولم يزد عدد المطارنة والاساقفة عن ثمانية عشر حتى حبرية البابا كيرلس السادس.

 لكن هذا لا ينفى مجهودات عديدة قامت بها الكنيسة لمعالجة هذا التراجع والكمون، ولعل اشهر من تصدى لهذا البابا كيرلس الرابع فاستحق ان يدعى "ابى الإصلاح" فشرع فى بناء سلسلة من المدارس العامة عرفت بمدارس الأقباط الكبرى، وسبق قاسم أمين فى اتاحة الفرصة لتعليم البنات بما يزيد على الثلاثة عقود، وكانت مدارسه تقبل التلاميذ من كل المصريين بلا تفرقة، وتخرج فيها أعلام سياسية منهم على سبيل المثال رؤساء الوزراء  عبد الخالق ثروت باشا، وحسين رشدي باشا، فضلاً عن الوزراء عبد الحميد مصطفى باشا وزير المالية، محمود عبد الرازق باشا وزير الداخلية، واسماعيل حسين باشا وزير المعارف (التربية والتعليم).

واستقدم ثالث مطبعة بعد مطبعة الحملة الفرنسية ومطبعة بولاق التى اسسها محمد على باشا بانى مصر الحديثة، واحتفى باستقبالها بطقوس الفرح يتقدمها الكهنة والشمامسة.

قام بكل هذا رغم سنى حبريته القليلة (1853 ـ 1861م)، وكانت وفاته محل ريبة، واشارت بعض اصابع الاتهام الى الحرس القديم.

ويوثق تاريخ الكنيسة تأسيس البابا يوأنس التاسع عشر عام 1929م، مدرسة الرهبان بحلوان فى خطوة عملية، تنتقى من كل دير عناصر رهبانية يرى فيها امكانية صقل اذهانها بعلوم الكنيسة والعلوم المدنية؛ الفلسفة والمنطق وغيرها، وتستهدف امرين:

أولهما اتاحة مساحة زمنية معرفية لطلابها للتحول من الثقافة المنعزلة النسكية الى التعاطى مع الكنيسة خارج الاديرة وتفهم احتياجات الرعية فيها.
وثانيهما ان يظل التعليم الاكليريكى بعيدا عن الأديرة الساعية لتعميق توجهها النسكى الذى تعمقه بالتلمذة على شيوخها، بحسب التقليد الرهبانى، وحتى لا يُحارب قاطنيها بفكر التبرم من عزلتهم وسعيهم للخدمة فى العالم، تأكيدا لتعليم مؤسسى الرهبنة بالفصل بين الرهبنة والكهنوت، ولعل هذا يفسر لنا فكرة قس الاسقيط الذى كان يجوب اديرة البرية على فترات متباعدة لعمل قداس لرهبانها الذين انقطعوا عن العالم.

اثمرت المدرسة عدداً غير قليل من أحبار الكنيسة خلال القرن العشرين، الذين صاروا أعمدة فى الخدمة الطقسية والتعليمية والرعوية، منهم البابا يوساب الثانى (الـبطريرك 115)، والبابا كيرلس السادس (الـبطريرك 116)، والأنبا مرقس مطران أبوتيج وطهطا، الأنبا ميخائيل مطران أسيوط، والأنبا كيرلس مطران البلينا، والأنبا ثاوفيلس رئيس دير السريان، والأنبا أنطونيوس مطران سوهاج والمنشأة، والأنبا بطرس مطران أخميم وساقلته، والأنبا مينا مطران جرجا، والأنبا مكسيموس مطران القليوبية ومركز قويسنا، والأنبا أسطفانوس مطران أمدرمان وعطبرة، والأنبا مكاريوس أسقف قنا ونقاده وقوص، والأنبا فيلبس مطران الدقهلية وبلاد الشرقية. (لمزيد من المعلومات راجع مقال مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان ـ القس باسيليوس صبحى ـ مجلة الكرازة 24 يوليه 2020). وكلهم كانوا أعلاماً فى العلوم الكنسية، عقيدة وطقس وتاريخ، وفى ادارة ايبارشياتهم، حكمة وعلماً وأبوة.

ويسجل التاريخ أن احد خريجى هذه المدرسة الراهب القس اقلاديوس الأنطونى (البابا يوساب الثانى فيما بعد) أوفده البابا كيرلس الخامس في بعثة علمية إلى أثينا سنة 1902 حيث درس في جامعتها اللاهوتية أربعة سنين أتم في نهايتها دراسته وحصل على إجازتها العلمية، وقد أجاد اللغتين الفرنسية واليونانية إلى جانب اللغتين القبطية والعربية.

وبحسب سيرته الموثقة "عاد محملاً برؤية مستنيرة، انعكست على قراراته حين أُختير لقيادة الكنيسة، فيذكر عنه اهتمامه بالأديرة وسعيه لرفع مستوى الرهبنة، ودعمه لمدرسة الرهبان بحلوان، وتصدى بجسارة وحكمة لسعى وزارة التربية والتعليم الاستيلاء علي المبى المقام على أرض الأنبا رويس بالعباسية والإستفادة منه، إذ سارع بدعوة المجلس الملى للانعقاد فى جلسة طارئة برئاسته وانتهى معهم الى قرار بنقل المدرس الإكليريكية من مقرها بمهمشة الى المبنى الجديد (1953) فى ظرف 24 ساعة من القرار، وافتتح معه القاعة اليوسابية (قاعة الأنبا رويس حالياً)، ثم افتتح المعهد العالى للدراسات القبطية (1954)."

"وشهدت حبريته صدور العديد من الكتب والمجلات القبطية، وامتدت خدمته الى جنوب افريقيا واثيوبيا والسودان ولبنان، وسعى لدى الدولة لمنح الأقباط من موظفى الحكومة اجازات رسمية فى اعيادهم، ونجح فى اقرار خمسة ايام متفرقة أجازة لهم فى مناسبات دينية مسيحية مختلفة، واقرار السماح لهم بالتأخر ساعتين صباح كل يوم أحد لحضور القداس."

وهو الأمر الذى يحاصر ما تم ترويجه عنه من مثالب وأخطاء.

تعثرت مدرسة الرهبان بحلوان لأسباب مختلفة، ادارية فى الغالب، وتعطلت سنة 1961 بعد أن استمرت  في العمل نحو ثلاثة عقود وأُجلِي الرهبان عنها، وجُعِلت غرفها نزلاً للطلبة المغتربين وبعض موظفي المصانع القريبة من حلوان، وحين قرر البابا كيرلس السادس إقامة ايبارشية حلوان جعل مبنى المدرسة مقراً لأسقف حلوان، فى ١٠ مايو ١٩٦٧م.، عندما تم سيامة القمص إقلاديوس الأنطوني (الأنبا بولس) كأول أسقف لهذه الإيبارشية الجديدة.

وفى تصريحات للأنبا ميخائيل اسقف حلوان الجديد فى حفل تجليسه، رصدتها الصحفية تريزة شنودة فى جريدة الدستور ــ 20 ابريل 2024 ــ أعلن عن إعادة تدشين مدرسة حلوان للعلوم اللاهوتية والتي كانت متوقفة لعدة سنوات، وقال "دعونا نركز على الاهتمام بالتعليم والرعاية من خلال إعادة تدشين مدرسة حلوان للعلوم اللاهوتية والتي تخرج منها العظماء من الرهبان والأساقفة وأبرزهم المطران الراحل الأنبا ميخائيل مطران أسيوط السابق". وأكد "هذه المدرسة ستكون بذرة للتعليم اللاهوتي للخدام والشباب والكهنة لأن في التعليم استنارة".

جرت فى نهر الكنيسة مياه كثيرة، ما بين مد وجزر، وواجهت تحولات عاتية داخلها وخارجها، سنعرض لها فى جزء تال من هذا الطرح الذى قد يجيب على السؤال الحائر: ماذا حدث لنا حتى صرنا لما نحن عليه، من تراجعات وصدامات وربما صراعات، عند قمة الهرم الكنسى وسفحه، تشهد عليها ساحات العالم الإفتراضى، بالمخالفة لما كان ينبئ به الحراك الكنسى الذى نقترب بحذر منه؟.