من قصصي القصيرة التي أحبها

أحمد الخميسي
كـــــــنــــاري  
   وسط ستة مليارات إنسان، وملايين الجبال والبحور، وكل الكواكب والنجوم، لدي فقط، كل ما لدي، عصفورة واحدة صغيرة، أقول لها  قبل نومي:" تصبحين على خير يا كناري الصغيرة". تقف على راحة يدي، لا أضغط عليها بقوة، وخشية أن تبعد عني لا أبعد أصابعي عنها. أكلمها بصوتي الأجش فتقول:" ياعندليب". أرقد تحت الأشجار فتقول:" سبعي يرتاح". أستحم في النهر فتطير فوقي تضرب الهواء بجناحيها: "تمساحي في النهر". هذه العصفورة هي كل ما لدي. أتحمل نزقها، وحماقاتها، وأصبر على تلفتها الكثير برأسها، وأتفهم نظرة عينيها التي تبدو مطمئنة راسخة ثم تحترق في لحظة بعذاب خوف مفاجئ.

   حطت على كتفي مطلع اليوم. رفعت رأسها نحو السماء بكبرياء. قالت بنبرة لا تقبل النقاش:" الجو اليوم صحو". وأضافت آمرة من غير أن تنظر إلي: " دعنا نطير قليلا". أحاول أنا الذي اعتدت تقلباتها أن أوضح لها:" أنا بشري يا كناري، وزني ثقيل، لا أطير". تمسح الأفق الذي ستحلق فيه بنظرتها وترد برأس مرفوع:" كف عن سخافاتك هذه". ينخفض صوتي:" افهميني، أنا لا أقدر". مرت على السماء بنظرة أخيرة متفحصة، ولا أظنها حتى سمعتنى، وقالت: "هيا . هيا!". قبضت بمخالبها الدقيقة على ياقة قميصي لترفعني واغتاظت من ثقلي وضخامتي، ورغم ذلك ارتفعت بي للأعالي. شهقتُ من الخوف وأنا معلق بشعرة في الهواء. قامت  بدورة كاملة في السماء، زقزقت، دخلت سحابة بيضاء وخرجت منها لأخرى وعلى ريشها وعلى جبيني ندى. تعبت ففردت جناحيها وانزلقت من السماء للأرض ببطء. حطت حيث أقف وظلي خلفي. نفضت الندى عن جناحيها وأطلقت صوتها الرنان نحوي: "ألم أقل لك إن بوسعك أن تطير؟" . تطمئن إلي وقفتها على الأرض فتستعيد نبرتها الآمرة:" سنطير كل يوم ما دمت قد أحببت ذلك. ربما غدا".

وقفت على رأسي ونكشت شعري متطلعة حولها، ثم  وكأنما اتخذت قرارا حكيما بعد تفكير قالت بثقة: " الآن سر بنا". تميل برأسها على جنب وتتذكر:" إلي اليمين".

   أمشي بها. أدوس على الأعشاب وأجتاز الأنهار وهي سارحة بعظمة في ذكرياتها وأحلامها، وفجأة صاحت:" انحرف يسارا الآن". تصرخ دون سبب:" قلت لك يسارا "!  مضيت بها بهدوء بين أوراق الأشجار العالية. قابلتنا بحيرة صغيرة ثم لاح جبل مرتفع  فرفرفت كأنها كانت تبحث عن ذلك الجبل من زمن وصاحت:" الجبل! ألم أقل لك؟". تمتمت:" لكنك يا كناري لم تنطقي بحرف عن الجبل"!  دارت أمام وجهي حانقة تضربني بمنقارها:" بل قلت لك يسارا لأن هناك جبلا"! عادت تنقل قدميها فوق كتفي وهي تصيح:" الآن اصعد الجبل"! نصعد. عند القمة وقفت أستريح، وملأت هي صدرها الصغير بالهواء النقي البارد. وقالت:"يكفي هذا. تعبنا"، وهبطت بعينيها إلي الغابات عند سفح الجبل، وهتفت بعظمة:" الق بنفسك إلي تحت. هيا. أريد دليلا أنك تحترمني". قلت:" سنموت يا كناري، ستتحطم ضلوعي على الصخور ولا يبقي مني شيء". دارت حولي باهتياج وعصبية:" أنت جبان. رعديد. لن نموت. وحتى إذا متنا سيبقى على الأرض حطام الحب وينمو من جديد". تضربني بجناحيها على ظهري، تدفعني بمنقارها إلي حافة الجبل وهي تصيح:"يا جبان". أنظر إلي الفراغ الهائل الذي يفصلني عن الأرض وألقي بنفسي من أعلى الجبل وهي خلفي، وما أن يحيط بي الهواء حتى أسمع صرخة مذعورة نحيفة:" يا ماما"!  ألتقطها بكفي وأواصل الهبوط إلي السفح، ولا أموت.

   تملصت من كفي ووقفت على الأرض. نفضت الفزع عن ريش جناحيها واستردت كبرياءها ثم قالت بابتسامة صغيرة:" ألم أقل لك؟ لن تموت. أنا أعلم". قالت ذلك وأنا أنصت لدقات قلبها المتسارعة وهي تهدأ. حل الغروب حولنا وسرقني النوم. بسطت لها كتفي فسألتني وهي تعلم الجواب:"هل ستنام؟". قلت:" نعم. تصبحين على خير". تنام هي الأخرى واقفة ترتجف، لكنها كأي كناريا صغيرة لا تنام طويلا، تستيقظ بعد قليل وتضم رأسي الضخم إلي صدرها وتغني لي:" نم يا صغيري. لا تخف. لا شيء ولا أحد في الغابة يجرؤ على تهديدك". إنها الان تحرسني وتحميني فأتظاهر بالنعاس، ويدخل الليل العميق وهي واقفة بداخله كالنور. أختلس نظرة إليها فتنهرني بكبرياء:" نم. لا تخف". ويندى كل شيء في داخلي بالحنان، مثل بستان في الفجر، حين أفكر أنه ليس لدي سوى هذه العصفورة وليس لديها سواي وحدي.