أحمد الجمال
ماذا يفعل المهموم المهتم بالشأن العام ويتصادف أن هوايته الكتابة وحرفته القراءة إذا فرضت الجغرافيا وفرض التاريخ نفسيهما عليه فلم يجد بديلًا عن الاستناد إليهما وهو يكتب عن علاقة مصر بعمقها الإفريقى، خاصة دول القرن الإفريقى، ومنها الصومال، الذى تصدر اسمه «مانشيتات» صحفنا، وبقى على مدار سنوات طويلة يشغل عقول كل المهتمين بالأمن القومى المصرى والعربى؟!

ماذا يفعل فى ظل طوفان اللغو المطالب بإلغاء تدريس بعض العلوم الإنسانية، تمهيدًا لإلغاء تدريسها كلها ربما بدعوى أن الجغرافيا والتاريخ والاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والمنطق والفلسفة والأنثروبولوجى والعلوم السياسية والقانون لا يجد خريجوها مكانًا فى أسواق العمل؟ وكيف يمكنه أن يحاول أن يعلم أولئك العباقرة الأفذاذ أن بعض- إن لم يكن كل- تلك العلوم تتصل بالأمن القومى للوطن بالمفهوم الأشمل لمضامين ذلك الأمن، وما الأبعاد الجغرافية والتاريخية والأنثروبولوجية والسياسية إلا حتمية فى أى محاولة لفهم مسألة القرن الإفريقى ودوله، ولتأصيل العلاقات المصرية بتلك الدول.

.. وأول ما أبدأ به هو الإشارة إلى أن المصريين القدماء- وقبل ظهور مناهج تدريس الجغرافيا والتاريخ والاستراتيجية- توصلوا إلى أن أمن مصر الوطنى يبدأ من «قرن الأرض»، أى القرن الإفريقى، إلى منابع المياه المعكوسة، أى منابع نهرى دجلة والفرات، اللذين يجريان من الشمال إلى الجنوب على عكس النموذج الأمثل «النيل»، الذى يجرى من الجنوب إلى الشمال.. ولذلك كان الاهتمام المصرى الشديد ببلاد بونت التى تُنطق أحيانًا «بونط» المطلة على جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، الذى هو المدخل المباشر لمضيق باب المندب، وكان الاهتمام الشديد أيضًا بمنطقة سوريا والعراق.

ولقد كان ملوك مصر القدامى، ومنذ الدولة القديمة- أى من الأسرة الأولى إلى الأسرة الخامسة- أول من أدرك تلك الحقيقة، وهنا يبرز اسم الملك المصرى القديم «ساحورع» من ملوك الأسرة الخامسة، ثم يظهر ويبرز اسم جلالة الملكة حتشبسوت، من ملوك الأسرة الثامنة عشرة، فى مرحلة الدولة الحديثة ضمن تاريخ مصر القديم، حيث كانت بلاد بونت موطنًا لأشجار البخور واللبان والمر والتوابل، ومعها أحجار كريمة ونادرة لاستخدامها فى التحنيط وطقوس العبادة وأبهة الملوك.

هنا أتوقف لأسأل العباقرة الأفذاذ أعداء علوم الإنسانيات: هل من سبيل لتطنيش هذا العمق التاريخى فى علاقتنا بإخوتنا ولخدمة مصالحنا الوطنية؟ وهل من سبيل لتطعيم ثقافى لأبناء مصر الذين قد تقودهم الظروف للوجود على أرض الصومال يخلو من هذا البعد التاريخى؟

ثم تمضى مراحل التاريخ فى الصومال إلى أن يصل للعصور الحديثة، وفيها انطلق الاستعمار الأوروبى الإيطالى والفرنسى والبريطانى والهولندى والبرتغالى، وأعقبه النفوذ الأمريكى للسيطرة بالاحتلال العسكرى للأرض الإفريقية، ومنها أرض الصومال الذى بذل أبناؤه- بتعاقب الأجيال ونظم الحكم- نضالات جبارة لمواجهة هذا الاستعمار، وبرزت أسماء أسر حاكمة فى الصومال أسست سلطنات فى شرق إفريقيا كأسرة «جيراد» التى أسست سلطنة «ورسنجلى»، وأسرة «يارى» وأسرة «جوبرون».

وفى أعقاب مؤتمر برلين أواخر القرن التاسع عشر اندفعت القوى الاستعمارية الأوروبية للسيطرة على الأراضى البكر فى إفريقيا، لتبدأ حرب هى الأطول فى تاريخ الحروب ضد الاستعمار بقيادة القائد العسكرى الصومالى محمد عبدالله حسان، وفى ذلك تفاصيل كثيرة ومثيرة، منها التواطؤ والتحالف الإثيوبى البريطانى ضد شعوب القرن الإفريقى.

ومرة ثانية تفرض الجغرافيا ويفرض التاريخ نفسيهما على السياق الصومالى- المصرى، حيث شهد العام ١٩٥٧ ذروة من ذرى ذلك السياق، ممثلة فى استشهاد السفير المصرى محمد كمال الدين صلاح، الدبلوماسى المصرى الذى ذهب للصومال بعد قرار الحكومة المصرية بنقله من مارسيليا، حيث كان قنصلًا لمصر هناك، إلى مقديشو ليكون ممثلًا لمصر فى لجنة ثلاثية مكونة من مصر وكولومبيا والفلبين، شكّلها مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة لمراقبة عملية نقل الصومال من مرحلة الوصاية إلى الاستقلال، وبينما كان الشهيد يعبر الطريق أمام بيته بالعاصمة مقديشو هجم عليه رجل يحمل سكينًا طويلة وطعنه بها فى ظهره، وظل يطعنه إلى أن سقط مضرجًا فى دمائه، وقبض الناس على القاتل، ورغم قسوة وشدة الضربات إلا أن البطل كمال الدين صلاح مد يده لينزع السكين من ظهره، وحُمل إلى المستشفى ليُسلم الروح يوم ١٦ إبريل ١٩٥٧، أى منذ ٦٧ عامًا.

وخلَّدت مصر شهيدها فتصدر تمثاله مدخل الخارجية المصرية، حيث لم يكن دبلوماسيًا فقط وإنما كان مناضلًا وطنيًا وإنسانيًا وُلد يوم ٢٨ مايو ١٩١٠، وبدأ حياته مناضلًا فى الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل.

وقد أسهب أستاذنا أحمد بهاء الدين فى سيرة الرجل بصفحات كتاب «مؤامرة فى إفريقيا»، ويشير الأستاذ بهاء إلى رسالة للشهيد كمال وجهها إلى زوجته، يتكلم فيها عن الصوماليين، فيقول: «هؤلاء الفقراء الذين يأكلون من صيد الغابات يتقدمون فى فهمهم السياسى والقومى بشكل عجيب، ففى أقصى الغابات وجدت واحدًا عنده راديو بطارية يسمع منه الآخرون نشرات الأخبار، ووجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة.. إنهم يتتبعون مفاوضات الجلاء، والحلف العراقى- التركى، وسفر جمال عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج.. إنهم يتعلقون بمصر تعلقًا شديدًا وينتظرون منها أن تساعدهم».. وهنا أكرر التساؤل نفسه الموجه للعباقرة الأفذاذ أعداء العلوم الإنسانية: هل نتجاهل هذا التاريخ، وهل يجوز أن نلتقط آخر جملة فى رسالة الشهيد البطل الدبلوماسى المصرى «ينتظرون من مصر أن تساعدهم»، لنقول إن مرحلة أخرى من مراحل هذا السياق التاريخى بدأت بمساعدة مصر لشعب الصومال هذه الأيام.. وربما يكون للحديث عن أعداء الإنسانيات صلة؟

ولابد هنا أن أشير لاستعانتى بما كتبه الأستاذ سعيد الشحات فى بابه الأشهر «ذات يوم» عن الشهيد كمال الدين صلاح.
نقلا عن المصرى اليوم