أحمد الجمال
فى لحظات بعينها بقيت أتساءل عن النفس التى شاء الله لها أن تعرف المكان أو الأرض التى تموت فيها، حيث تأتى لحظة الموت لملايين أو مليارات البشر وهم فى بيوتهم أو المستشفيات، ومنهم من يكون قد اختار الرحيل بنفسه أو ما يسمى «الموت الرحيم»، ومدى علاقة ذلك بالنص القرآنى «وما تدرِى نفس ماذا تكسِب غدًا وما تدرِى نفس بِأى أرضٍ تموت». سورة لقمان.
وقد رجعت لبعض التفاسير المعروفة المشهورة فلم أجد تطرقًا أو إشارة إلى ذلك الذى يبدو وكأنه تناقض.. ولما رجعت لعقلى ونفسى أدركت أن النص صحيح ولا تناقض فى الأمر؛ لأننى فهمت أن النفس لحظة خلقها ولحظة ولادتها هى المعنية بعدم الدراية.. وكانت تلك تساؤلات تأتينى فى لحظات أذكر منها ما عاصرته وعايشته مع أنفس عرفت أنها ستموت فى المكان الذى نوجد فيه، وفى المقدمة منهم أولئك الذين حُكم عليهم بالإعدام وحانت لحظة التنفيذ فى مشنقة سجن الاستئناف، الذى كنت نزيلًا فيه مع رفاق وأصدقاء كثيرين، فى المقدمة منهم الأستاذ محمد سلماوى، ومعنا فى زنزانة واحدة الأساتذة فيليب جلاب ومحمد يوسف الجندى ويوسف صبرى وحسين عبدالرازق ومحمد عواد ومحمد يوسف وحمزة العدوى وسيد غريب.
وقد ذكر الأستاذ سلماوى طرفًا من وقائع وذكريات تلك الفترة فى مذكراته الفريدة الثرية.. وكانت الصدفة أن تتجاور الزنزانة التى انحشرنا فيها ورقمها ٢٧ مع الزنازين المخصصة لما يسمى بلغة السجون «المخصوص»، أى المحكوم عليهم بالإعدام، وكان فى الزنزانة الملاصقة محكوم بالإعدام اسمه أحمد، وشهرته «سفاح الجيزة»، والزنزانة التى تليه سمير وليم الجاسوس الشهير الذى استطاع تجنيد أسرته كلها للتجسس على مصر لحساب الدولة الصهيونية، وكان دومًا يجزم بأن الحكم لن يُنفذ فيه، وزنزانة تالية فيها صلاح العمرى أبرز قناصى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان متهمًا بالمشاركة فى محاولة اغتيال محمد على هيثم، رئيس وزراء اليمن الجنوبى «آنذاك»، وبعده زنزانة عماد أبورقيق، ابن شقيق القيادى الإخوانى صالح أبورقيق، وكان محكومًا عليه بتهمة تفجير مجمع التحرير لحساب النظام الليبى، وبعدها زنزانة سمير التميمى، الفلسطينى الذى كان يتجسس لصالح العدو الصهيونى.
وعشت مع زملائى ليلة تجهيز غرف الإعدام للعملية، حيث تنزح المياه الجوفية من البئر، ويعلم كافة من فى أدوار السجن أن صباح الغد سيشهد شنق أحدهم، وبالاسم الذى يفترض أنه غير معلن إلى لحظة إخراجه.. والكل يعرف من أمرين، أحدهما التسريب من حراس السجن، والثانى هو تدفق الأطعمة والأشربة والسجائر إلى زنزانة واحد بعينه من الذين يرتدون البدلة الحمراء، ولأول مرة أشاهد مُستقبلًا للموت وهو يغنى وينقر الإيقاعات على الطاولة من أمامه، وكان هو سفاح الجيزة، الذى اغتصب طفلًا وقتله بالقرب من شريط السكة الحديد بعد أم المصريين، هو من غنى، وبعد الدندنة وفيما يصطحبه الجنود «غفر النهار» إلى السلم الحديدى الهابط إلى الدور الأرضى، حيث الغرفة إلى يمين السلم، طلب التوقف ليوجه النداء التالى، ونحن مزدحمون من وراء شراعة باب الزنزانة: «عنبر كله يسمع.. أحب أعرفكم يا إخوانى إن أخوكم أحمد سفاح الجيزة نازل يتمرجح على مرجيحة الأبطال ويموت موتة الجدعان.. والحكومة ما تجيش إلا على الغلبان، والعين ما تبكيش إلا على النافع... يا عينى عليك يا أحمد يا غلبان وآدى آخرة الشقاوة.. يا حلاوة»، ثم وهو واقف أمام الصول «عبداللطيف زنفل»- عشماوى تلك الفترة- داعبه قائلًا: «هيص يا عم عبداللطيف هتاخد خمساية (خمسة جنيه) تجيب بيها لحمة وحلاوة للعيال».. وعند سؤاله عن طلبه الأخير قال: «عاوز أبوس البيه المأمور».. ليمسك الجند برأسه وبقوة ويقترب المأمور العقيد «حسين كامل» ويطبع أحمد قبلته.. وهكذا عرفت نفس أحمد بأى أرض تموت، بل تمادى فى الاحتفاء بطقوس موته!
أما صديقى وصهرى، الذى لم أكتب عن مسيرته حتى الآن، وهى مسيرة حافلة بكل المعايير، فقد أخذ تحصين فايزر للكورونا وتسبب فى جلطات وأجرى عمليات لعلاجها، وشُفى منها، وبعدها بوقت وجيز اكتشفوا أنه مصاب بسرطان شرس متغلغل فى معظم جسده، والمسألة مسألة وقت قصير ليموت وكان راقدًا فى المستشفى بولاية كندية تبيح للإنسان أن يقرر الخلاص من حياته، وبالفعل طلب جابر حجازى أن يوقع الأوراق، وطلب من زوجته أن تحضر له أسطوانة قرآن بصوت الشيخ محمد رفعت وأسطوانة لأم كلثوم فيها أغنية «رق الحبيب» التى كان لا يمل من الاستماع والاستمتاع بها.. وانطلق صوت أم كلثوم ومن بعده صوت الشيخ رفعت ليحقنوه بالمنوم وعند التأكد من استغراقه فى النوم حقنوه بالمادة التى تفيض بها الروح.. وعلم صديقى المكان الذى سيقضى فيه.
ومازلت أتامل وأفكر فى الكلام الذى قاله لتفسير ما فعل.. وفى مسيرته كلها التى كانت نموذجًا لحب البساطة والثقافة، والتصالح مع الكون كله!.. يضع لطير الطنان الماء المحلى بالسكر المركز معلقًا فى وعاء على طرف الشرفة.. ويترك طيور السمان تتوغل فى أحواض مزروعاته لتشبع من الفراولة وغيرها، ويدرس الفلك هواية احترافية ليسبر أغوار الفضاء، ونجلس سويًا لتضميد جناح طائر فيزون ثمين القيمة إثر إصابته على الطريق، وندخل به الغابة ونتركه، فإذا بالطائر يتردد على مكان إقامتنا بالقرب من الغابة؛ وكأنه يريد التعبير عن الامتنان!
إن بيننا وبين الذين تركونا حاجزًا أراه شفافًا نستطيع رؤيتهم منه، شريطة أن نعرف الزاوية الصحيحة لرؤية ما وراء الحاجز.. مثل الترمومتر الزئبقى لا تستطيع رؤية الزئبق إلا إذا ضبطت وضع عينك على الأنبوب الزجاجى!
نقلا عن المصرى اليوم