سامح فوزي
منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا يُعقد فى شهر أغسطس فى مدينة ريمينى الإيطالية، ذلك المنتجع الصيفى على البحر الادرياتيكى، ما يُعرف بـــ «لقاء ريمينى»، وهو يمثل ملتقى ثقافيا عالميا، يجتذب نحو مليون زائر سنويًا، من إيطاليا وخارجها، ويحضره كبار المسئولين الإيطاليين، ويحظى بدعم الدولة الإيطالية والفاتيكان. هذا العام استضاف نحو 450 شخصية عامة مؤثرة فى مجالات عديدة، ونظم معرضًا عن مسار العائلة المقدسة فى مصر، حظى باهتمام واسع، ومثَّل واحدًا من أكثر المعارض زيارة من جانب الزائرين.

أهم ما يلفت الانتباه، ويستحق أن نتوقف أمامه، هو التطوع فى ريمينى؛ حيث يستند هذا الحدث الثقافى الضخم، بكل المقاييس، إلى منظومة هائلة من المتطوعين، بدءا من أعضاء مجلس إدارة «لقاء ريمينى» أنفسهم، وانتهاء بالمتطوعين الذين ينظمون كل جوانب النشاط. هؤلاء المتطوعون لا يتقاضون شيئا، بل يتحملون تكاليف الإقامة والتنقلات، وهم ليسوا من الشباب فقط، مثلما يغلب على إدراكنا لمفهوم التطوع، لكنهم من كل الأعمار، نساء ورجال، وهو ما يعطى للحدث معنى مختلفًا.

استغربت حين وجدت أن من يقود إحدى السيارات للمشاركين هو رئيس بلدية ريمينى الذى حصل على إجازة من عمله، وجاء يعمل متطوعًا، ولا يمثل ذلك حالة استثنائية، بل هناك مئات المتطوعين المنتشرين فى جوانب المعرض، من مهندسين وأطباء ومحاسبين وباحثين، وكثير منهم له حضور مجتمعى واسع، لكنه قرر أن يقضى أيامًا فى خدمة رواد هذا الحدث الثقافى العالمى. ويلاحظ أن بعضًا من المتطوعين كبار السن، كانوا فى شبابهم متطوعون فى لقاء ريمينى، وظلوا محتفظين بهذا التقليد فى حياتهم، واستطاعوا اجتذاب أبنائهم إلى نفس المسار.

والسؤال الذى يراود ذهن القارئ: لماذا كل هذا الإقبال على التطوع؟ الإجابة فى كلمة واحدة هى التعليم، الذى جعل من التطوع ثقافة، وموضع تقدير من المجتمع، وفائدة لبناء الشخص نفسيًا وسلوكيًا واجتماعيًا. فى المدرسة يتعلم النشء والشباب ثقافة التطوع فى مشروعات اجتماعية، وأنشطة ثقافية، ومبادرات إنسانية؛ حيث يتشكل وجدانهم على خدمة الآخرين. ويُعد دور المدرسة محوريًا، لأنه يصعب أن يتعلم شخص ثقافة التطوع عندما يتقدم به السن، أو يعيش بأسلوب حياة معين، ثم يتجه إلى تغييره عندما يكبر. بالتأكيد يستطيع بعض الناس ذلك، لكنه لا يمثل اتجاهًا عامًا، لأن المرء يتشكل وجدانه صغيرًا، ثم يصاحبه مع ارتقائه على سلم العمر. كم يكون مبهجًا أن تجد شخصًا فى السبعين أو الثمانين من عمره، ويعيش متطوعًا بقلب شاب، وروح شاب، وسلوك شاب.

أين نحن من كل ذلك؟ أعرف نماذج من أشخاص كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع، ولكنى أتحدث عن حالة عامة، ثقافة حياة، خبرة تعليم. فى خضم سعى وزير التعليم لتغيير أنظمة التعليم، وما يرافق ذلك من جدل ونقاش، لم أرَ تصورا أو مقترحا من وزارة التعليم لوضع برامج حقيقية للتربية المدنية فى المدارس تساعد الطفل أو النشء على تعلم تفكير إيجابى، وسلوكيات أفضل فى الحياة، بل ينصرف كل التركيز إلى المناهج والمقررات. هذا ما يسميه العالم المتقدم «المنهج المُعلن»، ولكن هناك منهجًا آخر خفيًا يتمثل فى ممارسة الثقافة المدنية من مشاركة فى العمل الأهلى، وخبرات فى التطوع الإنسانى وخدمة الآخرين، وفتح المجال أمام العمل الجماعى، واكتساب ثقافة التنوع، وقبول الآخر، والاختلاف. أين التعليم فى مصر من كل ذلك؟
نقلا عن الشروق