القمص يوحنا نصيف
  ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك (2)
  نتابع تقديم مقتطفات من شرح القدّيس كيرلّس لردّ الربّ يسوع على بطرس الرسول عندما قال: "ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك":
 + دعونا نرى بأيّة طريقة ينال الذي يترك بيتًا أو أبًا أو أُمّا أو إخوة بل وربّما زوجته، أضعافًا كثيرة في هذا الزمان الحاضر؟ هل هو سوف يصير زوجًا لزوجات كثيرات؟ أم سوف يجد على الأرض آباء كثيرين، بدلاً من أب واحد، وهكذا يتضاعف عدد أقربائه الأرضيين؟ ليس هذا هو ما يقوله (الربّ)، بل بالأحرى هو أنّه بالتخلِّي عن هذه الأشياء الزمنيّة والجسديّة، فإنّه سوف ينال ما هو أعظم جِدًّا في قيمته، أي سوف ينال أضعاف المرّات ما صُرِفَ النظر عنه.
 
  + لنأخُذ -مِن فضلكم- الرسل الأطهار كأمثلة لنا؛ فنقول عنهم أنّهم كانوا أشخاصًا غير متميّزين بحسب المركز الدنيوي، ولم تَكُن لهم مهارة في الفصاحة وفي الإلقاء، وليس لهم لسان بليغ ولا كلمات فخمة، بل بالعكس كانوا غير مُدَرَّبين على الكلام، وبحسب المهنة كانوا صيّادي سمك، وكانوا يقتاتون من تعبهم. لكن كلّ ما كان لهم قد تركوه كي يكونوا ملازِمين للمسيح دائمًا وخُدَّامًا له. ولم يستطِع أيّ عائق أن يعوقهم أو يجتذبهم بعيدًا في انشغالاتٍ أخرى أو مطالب دنيويّة.
 
  + إن كانوا قد تركوا كلّ شيء، فما الذي ربحوه؟ نعم لقد امتلأوا من الروح القدس، ونالوا سلطانًا على الأرواح النجسة ليُخرِجوها، وصنعوا معجزات،
حتّى أنّ ظِلَّ بطرس كان يشفي المرضى؛ وصاروا بارزين بين الناس في كلّ مكان، متقدّمين في المجد، وجديرين بالاقتداء (بهم)، وصاروا مشهورين وهم أحياء، وكذلك فيما بعد (انتقالهم). لأنّه مَن هو الذي لا يعرف أولئك الذين علّموا العالم سِرّ المسيح؟ مَن لا يُعجَب من إكليل المجد الذي وُهِبَ لهم؟
  + ربّما تقول: هل يَلزم أن نصير كلّنا مثلهم؟ على هذا السؤال نجيب أنّ كلّ واحد مِنّا أيضًا، نحن الذين آمَنّا بالمسيح وأحببنا اسمه:
 إن كُنّا قد تركنا بيتًا ننال المنازل التي فوق؛
  وإن كُنّا قد تركنا أبًا فسوف نربح الآب الذي في السموات؛
  وإن كان أحد قد تُرِكَ من إخوته فسوف يقبله المسيح أخًا له؛
 وإن تَرَكَ زوجةً فستكون الحكمة التي تنزل من فوق من عند الله هي رفيقته في البيت. لأنّه مكتوب: "قُل للحكمة أنتِ أختي، واجعَل الفهم صديقك" (أم7: 4 سبعينيّة)، وبواسطتها سوف تُثمِر ثمارًا روحيّة جميلة، وبواسطتها سوف تصير شريكًا في رجاء القدّيسين، وتنضمّ إلى رفقة الملائكة.
 
  ومع أنّك تركتَ أمّك، فسوف تجد أمًّا أخرى، أروع بما لا يُقاس، أي أورشليم العليا، التي هي حُرّة، وهي أمّنا جميعًا (غل4: 26).
 
 + كيف لا تكون هذه الأشياء مضاعَفةً جِدًّا، أكثر من تلك التي تُرِكَتْ، لأنّ تلك التي تُرِكَت هي مؤقّتة وسريعة الزوال وتتلف بسهولة! لأنّها كالندى وكالحلم هكذا تزول. أمّا الذي يُحسَب أهلاً لهذه الأمور الأبدية فهو يصير لامِعًا حتى في هذا العالم، بل ويغارون منه بسبب أنّه يكون مزيّنا بالمجد أمام الله والناس.
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 124) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]