سحر الجعارة

على صفحته بفيس بوك كتب الدكتور «رؤوف رشدى» استشارى النساء والتوليد: معنى أن تكون طبيباً.. أن تكون طبيباً هو أن تعيش فى حالة من التضحية المستمرة، حيث تجد نفسك دائماً فى مواجهة الإنسانية فى أضعف حالاتها. إنه مزيج من العلم والرحمة، حيث لا تتعامل فقط مع الأمراض، بل مع الناس وأحلامهم وآلامهم.

 

الطبيب هو من يحمل بين يديه القدرة على تخفيف الألم وتحقيق الشفاء، ليس فقط من خلال العلاج، بل أيضاً من خلال وجوده ودعمه، فهو الذى يلتقى بالمرضى فى أحلك لحظاتهم، عندما تكون الحياة معلقة بخيط رفيع، ليكون هو الأمل الذى يربط هذا الخيط.

 

إن حياة الطبيب مليئة باللحظات التى تتطلب منه اتخاذ قرارات مصيرية فى ثوانٍ معدودة، دون أن يُتاح له التفكير فى راحته الشخصية أو فى تلك اللحظات العائلية التى قد يخسرها. هو من يتحدى الإجهاد العقلى والجسدى، ويتجاوز كل العقبات ليحقق هدفاً أسمى، ألا وهو تقديم الرعاية الصحية لكل من يحتاج إليها، بغضِّ النظر عن الظروف.

 

ورغم كل التحديات، لا يسعى الطبيب للثناء أو التقدير، بل يجد سعادته الحقيقية فى رؤية الابتسامة على وجه مريض تحسنت حالته، أو فى تلك اللحظة الصامتة التى يدرك فيها أنه كان السبب فى إنقاذ حياة. أن تكون طبيباً يعنى أن تكون جزءاً من قصة أكبر، حيث يتداخل العلم بالفن، وتتجسد الإنسانية فى أبسط صورها. هو التزام أبدى يتجاوز المهنة ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الكيان. إنه مسار ملىء بالتضحيات، لكنه فى الوقت ذاته ملىء بالإنجازات التى لا يمكن قياسها بأى معيار مادى.

 

فى النهاية، أن تكون طبيباً هو أن تعيش حياتك بشكل مختلف، حياة مليئة بالعطاء والخدمة، حيث يكون هدفك الأسمى هو صنع فرق حقيقى فى حياة الآخرين، والارتقاء بالإنسانية فى كل لحظة تمضيها فى ممارسة مهنتك.

 

والحقيقة أن «شباب الأطباء» فى مصر تعرضوا طويلاً لضغط عصبى، وظلم من حيث بدل العدوى والرواتب المتدنية، وقد كنت طرفاً فى أزماتهم بقلمى.. لدرجة أن نقابة نقابة أطباء مصر قامت بتكريمى فى «يوم الطبيب» -فى عام 2019- لتبنّى قضايا الأطباء والدفاع عن حقوقهم.. وهو ما أفعله بدافع «الواجب» والعرفان بالجميل لأصحاب الفضل على البشرية.. أولئك الذين تُسلمهم روحك وتأتمنهم على جسدك وأنت فى غيبوبة التخدير ليتخذ الطبيب «نيابة عنك» قراراً قد يترجمه مشرط أو بتر عضو من جسمك.. إنهم أمناء على الحياة نفسها.

 

أيضاً شاء قدرى أن أولد «طفلة مريضة» أتردد على الأطباء منذ الخامسة من عمرى وأدخل غرف العمليات من طفولتى حتى الشهر الماضى، وفى كل لحظة من هذا العمر الطويل كنت أشعر بأن الأطباء هم الملجأ والملاذ دائماً.. وكنت أتذكر دائماً كلمة الرائع الدكتور «إبراهيم بدران»، طبيب الغلابة، وهو يقول فى حوار تليفزيونى أدرته (أرى الله فى غرفة العمليات).. فكنت أشعر دائماً أن معجزة الشفاء يُجريها الله على أيدى الأطباء.

 

وشاء قدرى أيضاً أن أتزوج طبيباً، وأعيش معه الأرق والغياب الطويل للعمل، واعتياد العمل تحت الضغط، والسعى دائماً للدراسة واكتساب المهارات.. وكنت أشعر دائماً أنها مهنة تسرق حياة الإنسان.. لكنها رائعة لأن الشخص الوحيد الذى تُعرِّى ضعفك أمامه هو «الطبيب».

 

أثناء جائحة كورونا كان العالم بأكمله يعتمد على «الجيش الأبيض» من الأطباء، وهى الكتيبة التى كانت تعمل فى حقل ملغم باحتمالات مجهولة أقلها «العدوى» لا قدَّر الله.. وقتها كتبت نصاً: إن (العالم كله يراهن الآن على صلابة «المنظومة الصحية» فى مواجهة فيروس كورونا المستجد كوفيد- 19، فعلى خطوط المواجهة تقف الكوادر الطبية وتقوم بمهام فدائية، وقد قدم أطباء العالم العديد من بينهم شهداء فى حرب ضروس ضد وباء جائحة لم ينجح عباقرة العالم حتى الآن فى اكتشاف علاج أو مصل واقٍ منه».. العالم أجمع يعرف قيمة «العنصر البشرى» فى حربنا ضد جائحة كورونا.

 

هل تتخيل أن من تعرَّض لهذه الحرب (قبل ظهور الأمصال) شخص عصبى أو ليس لديه «ثبات انفعالى» أو يتعامل مع أهل المريض بالأرجل و(الشلاليت)!

 

أنا أقدِّر تماماً كل الضغوط الواقعة على «طبيب شاب»، وعلى صعوبة النوبتجية التى تمتد أياماً وليالى.. لكنى لم أستوعب ما حدث للنجم «محمد فؤاد» وشقيقه.. صحيح أنه حادث فردى ولا يدين شباب الأطباء وليس حكماً عليهم.. ولكنه يحتاج مراجعة دقيقة من نقابة الأطباء لسلوكيات وأخلاقيات «معاملة المرضى». نحن لا نتسول «العلاج» حتى لو كان المستشفى مجانياً.. إن كل ما يطلبه المواطن «خدمة طبية» تقدم باحترام.. وقليل من الرحمة لن يُسقط أى طبيب من مصاف أنصاف الآلهة الذى يهيئه له غروره. 

نقلا عن الوطن