القمص يوحنا نصيف
جاءني السؤال التالي: أسفار العهد القديم؟'>هل حدث تحريف في أسفار العهد القديم؟ وما هو موقف السيّد المسيح من هذه الأسفار؟
+ في الحقيقة، التاريخ يؤكِّد أنّ اليهود كانوا متشدِّدين جدًّا في الحفاظ على كتبهم المقدّسة، ويتوخُّون الدِّقة المتناهية في نساختها وحِفظها.. كما أنّ المخطوطات القديمة الموجودة الآن، وبعضها يرجع للقرن الثاني قبل الميلاد، مثل مخطوطات وادي قُمران التي تحمل لنا مجموعة من النُّسَخ لأجزاء كبيرة من أسفار العهد القديم، مكتوبة بدِقّة وتنسيق بديع، وقد خضعت للبحث العِلمي الدقيق، هي مُطابِقة لِما هو بين أيدينا الآن من نصوص وترجمات حديثة.
+ لقد كَتَبَ موسى النبي التوراة في كتاب، وسلّمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب، وأمرهم أن تُقرَأ باستمرار في مسامع كلّ الشّعب، الكبار والصغار، لكي يتعلّموا أن يتّقوا الرب.. (تث31: 9-26). وقد قام اليهود بنساختها بمنتهى الدِّقّة نُسَخًا كثيرة، وكان هناك فئة مخصَّصة لهذه المهمّة الجليلة عبر كلّ تاريخ اليهود وحتّى مجيء المسيح، وهي فئة "الكَتَبَة" أو "الناموسيين".
+ إذا نظرنا نظرة بسيطة على أسفار موسى الخمسة، سنتبيّن أنّ الكاتب (موسى النبي) هو شاهد عيان صادق على معظم الأحداث، وأنّه يتمتّع بقدر وافر من الحكمة والبلاغة والدِّقَّة.. وهذا ليس ببعيدٍ عن موسى النبي الذي قيل عنه أنّه تهذَّب بكلّ حِكمة المصريين (أع7: 22) والذين كانوا أسياد الحضارة في ذلك الوقت!
+ ثُمَّ في عهد عزرا الكاهن الكاتب بعد موسى النبي بحوالي عشرة قرون، قام عزرا بعد العودة من السبي، ومعه فريق كبير من الكَتَبَة، بجمع ونسخ كلّ الأسفار الأخرى مع أسفار موسى الخمسة، في كتاب واحد. والأسفار الأخرى هي الأسفار التاريخية والأدبيّة مع أسفار الأنبياء.. وكلّها كُتُبٌ شُهِدَ لها أنّها موحى بها من الله (2بط1: 21)..
+ جدير بالذِّكر أنّ العهد القديم قد تُرجِمَ من اللغة العِبريّة إلى اللغة الآرامية (السريانية) في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم من العبريّة لليونانيّة في القرن الثالث قبل الميلاد، وهي الترجمة المُسمَّاة بالسبعينيّة.. وتَعَدُّد الترجمات هُنا ليس عيبًا، بل هو يؤكِّد أصالة النصّ ويوضِّح معانيه.
+ عندما وُلِدَ السيِّد المسيح كانت نُسَخ العهد القديم لا تُحصَى من الكثرة، وموجودة في كلّ مَجمَع يهودي، في أرض إسرائيل وخارجها، وهذا يؤكِّد استحالة نجاح أيّة محاولة للتحريف، إذا افترضنا جدَلاً أنّ هناك محاولة!
+ إذا وقع تغيير غير مقصود من النُسَّاخ أثناء كتابة أو تشكيل أيّة كلمة داخل مخطوط أو أكثر، ضمن عشرات الآلاف من المخطوطات المتشابِهة، فهذا أمر وارد الحدوث، لأنّ النُسّاخ هم بشر مُعَرَّضون للخطأ، ولكن بالتأكيد لا يُمكِن اعتبار هذا محاولة للتحريف!
+ أمّا عن موقف السيِّد المسيح من أسفار العهد القديم، فلم نسمع أنّه كان ينتقد اليهود على تحريفهم لأيّ نصوص، بل كان فقط يوبِّخهم على طريقة فهمهم الحرفيّة التي كانوا يتمسّكون بها.. فقد كان يناقشهم ويوضِّح لهم جوهر المعنى في الوصايا، ويؤكِّد للجميع: "لا تظنُّوا أنِّي جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأُكمِّل. فإنِّي الحقّ أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس" (مت5: 17-18).. وفي مرّةٍ أخرى نصحهم قائلاً: "فتِّشوا الكُتُب.. هي تشهد لي" (يو5: 39).. وبعد قيامته من الأموات، فتح ذِهن تلاميذه ليفهموا الكتب المقدّسة، وبدأ يشرح لهم الأمور المُختصّة به في ناموس موسى والأنبياء والمزامير (لو24: 27، لو24: 44-46)..
+ لذلك نجد أنّ الآباء الرسل، بحسب ما استلموا من الربّ يسوع، كانوا منشغلين تمامًا بدراسة أسفار العهد القديم، وشرحها، والكرازة بالمسيح من خلالها.. حتّى أنّهم قالوا ذات مرّة: "لاَ يُرْضِي أَنْ نَتْرُكَ نَحْنُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ.. أمّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى الصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ الْكَلِمَةِ" (أع6: 2-4)، ويؤكِّد القدّيس بطرس في حديثه عن الأسفار المقدّسة "أَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بط1: 21).
+ لقد ظلّت أسفار العهد القديم هي الكتاب المقدّس للكنيسة المسيحيّة الناشئة لمدّة عشرات السنوات، قبل كتابة أسفار العهد الجديد، وستستمرّ معنا إلى الأبد. فقد حرص آباؤنا الرسل الذين كتبوا لنا بالروح أسفار العهد الجديد أن يبنوا تعاليمهم وكتاباتهم على أسفار العهد القديم المكتوبة بالروح القدس أيضًا؛ من جهة تحقيق النبوءات، وكشف الإشارات، وشرح الرموز، وإبراز تدبير الله الخلاصي المُتَجَذِّر في أسفار العهد القديم، وقد صار في ملء الزمان مُعلَنًا في شخص ربّنا يسوع المسيح مخلّصنا الصالح.
القمص يوحنا نصيف
أغسطس 2024م
* الأيقونة للقدّيس مرقس الرسول يكتب إنجيله. بريشة الفنّانة الرائعة تاسوني سوسن.