سمير مرقص
(١) «التحدى التاريخى المركب»
سألنى المحاور: فى أى خانة من خانات التصنيف تسكن كتابك «أحلام فترة العزلة»، (دار العين- ٢٠٢٤)، فاجأنى السؤال، وللحظة صَمَتُّ، ثم أجبت على السؤال بسؤال مفاده: لماذا تسألنى هذا السؤال؟ فقال محاورى: لأنك قاربت الكثير من الموضوعات والقضايا والإشكاليات من خلال مقاربات تنتمى لحقول معرفية متنوعة. منحتنى إجابة المحاور فرصة للتأمل والتفكير، وتذكرت وصفًا قرأته ورد حول الكتابة فى زمن تتعرض فيه البشرية لتحدٍّ مركب يتكون من هجين من التحديات البيئية، والحيوية، والتكنولوجية، والوجودية. ومن ثم لابد أن يتم التعبير عن هذا التحدى «بكتابة هجين»، أى كتابة تعكس حقول المعرفة المختلفة لفهم وتفسير ومواجهة التحدى. إذ إنه بات من المستحيل تفسير ما يحدث من على أرضية حقل معرفى بعينه، وإنما من خلال «براح» ممتد تتداخل فيه حقول المعرفة دون حواجز. فالأطروحات التأسيسية التى تتعلق بعلوم الاجتماع والفلسفة والسياسة وعلم النفس والتاريخ والاقتصاد يجب تجديدها بما يتناسب والتحولات «الطفرية» التى لحقت بالعالم فى شتى المجالات. وفى هذا المقام، يلفت النظر الفيلسوف الفرنسى «برونو لاتور» (١٩٤٨- ٢٠٢٢)، ما ملخصه أنه لا يمكن الحديث عن كارثة المناخ دون الحديث عن اللامساواة والشراهة الرأسمالية، والاستغراق الاستهلاكى، والعولمة، والتبعية. وأنه «لم يعد هناك موضوع تقنى محض، ذلك وهم، فالتقنيون لا يضعون تصورًا لموضوع تقنى دون الأخذ بعين الاعتبار الاجتماع الإنسانى من جهة، والتنوع الذى يسم المجموع الإنسانى من جهة أخرى. أى لابد من تأسيس جديد يقوم على التواصل بين التقنيين والسياسيين والاجتماعيين والأنثروبولوجيين، وغيرهم، والعمل على إعمال الجدل بين وجهات النظر المتنوعة من أجل أن ترسو البشرية رسوًا سالمًا.

(٢) «التعقيد»
بلغة أخرى، أضفت إلى محاورى: نحن فى القرن الحادى والعشرين، الذى يصفه الفيلسوف الفرنسى «إدجار موران» بقرن التعقيد والفكر المركب، ومن ثم نحن فى حاجة إلى ممارسة نوع من القراءة للواقع ذات طابع مركب، ذلك لأن الواقع قد صار مركبًا. ما يستدعى مقاربة فكرية تتجاوز المنهجيات الساكنة التى وضع أسسها رواد الفلسفة والفكر. فهناك أسئلة إنسانية جديدة، وتحديات سياسية ومجتمعية وبيئية مستجدة، تختلف جذريًا عن التى عرفها الإنسان قبلًا. ومرة أخرى، أستعيد فكرة لـ«برونو لاتور» يوضح فيها بمثال عملى كيف يتم تجديد المنهجيات الكلاسيكية ويشبك بين حقول المعرفة المختلفة، إذ يقول: «فى أدبيّات فكر دوركايم، يتَّجه علم الاجتماع لوصف الروابط بين الفاعلين الاجتماعيين، لكن الجانب الاجتماعى لا يتكوَّن من الروابط الاجتماعية، فحسب. فالقانون، والعلوم، والتقنية، مثلاً، هى روابط اجتماعية بصفة كاملة. رفقة زملائى فى مدرسة المناجم، قمنا بإنجاز نقلة لمفهوم المجتمع، باعتبار أن المجموع هو نتاج لترابطات تأخذ بعين الاعتبار، بعيدًا عن البشر، عددًا من الفاعلين من غير البشر، شأن التشريعات التى يمليها القانون، وشأن الإكراهات التقنية التى تفرضها علينا الأشياء. والفكرة ليست بالجديدة، اليوم. فى البداية، أردنا أن نعيد تأليف علم الاجتماع، لا بوصفه علمًا للمجتمع، بل بوصفه علمًا لترابطات بين مختلف الفاعلين الذين يتدخَّلون على شكل شبكة».

(٣) «تجاوز المنهجيات الساكنة»
بالكتابة الهجين، الكتابة المؤسسة على تشابك حقول المعرفة المختلفة، يمكن رؤية العالم رؤية صحيحة فى الألفية الجديدة والتحرر من: «أسر رؤى أزمنة سابقة». فعصر القوانين اليقينية والعلاقات المنتظمة الخطية قد ولى. وذلك لأن ما أحدثته ثورات العلوم الفيزيائية والبيولوجية والتكنولوجية الرقمية قد دفعت البشرية والكوكب إلى مكان آخر مغاير تمامًا لما ألفناه على مدى القرون السابقة على القرن الحادى والعشرين. ونتج عن هذا الدفع تصدع المعمار الذى شكل بنى القرن العشرين على جميع المستويات. فى هذا السياق، ووفق ذاك النهج، كتبنا «أحلام فترة العزلة»؛ فى لحظة تاريخية تعرت فيها الإنسانية تمامًا عندما تبين مدى شراسة وجور الرأسمالية ومسؤوليتها عن تخريب الكوكب والبيئة والمناخ، وتغييب العدالة ما أدى إلى لا مساواة غير مسبوقة فى تاريخ الإنسانية بين القلة الثروية حول العالم والأغلبية المواطنية على ظهر الكوكب. ما ولَّد سياقات وأجيالًا ونماذج معيشية وقيمية وسلوكية جديدة (براديجمات Paradigms)، كان لابد لها من استجابات مبتكرة تتجاوز حقول المعرفة فى صورتها العادية الأولية المنعزلة، كذلك الاستعانة بالفنون والآداب بتجلياتهما المتنوعة لفهم وتفسير الوضع الجديد قيد التشكل حول كل ما يتعلق بإنسان/ بمواطن الألفية الجديدة، وتحفيزه على الفعل المتجدد لبناء المعمار الجديد.
نقلا عن المصرى اليوم