القمص يوحنا نصيف
    جاء في تسبحة أمّنا القدّيسة مريم العذراء، عند لقائها بالقدّيسة أليصابات: أن الله شتّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتّضعين.. فما معنى هذا التشتيت، ولماذا يصنع الله هكذا بالمستكبرين والأعزّاء؟! هذا ما سنناقشه في هذا المقال..

    في البداية من المهمّ أن نفهم معنى الكبرياء، وكيف يسيطر على الإنسان؟
    الحقيقة أنّ الكبرياء دائمًا يبدأ وينبع من الفكر..

    هو إحساس بأنّني أعلى من غيري، وأنّي شخص كبير من ذاتي، وليس من الله الذي أعطاني كلّ شيء..
    إنّني أستحقّ الكثير من التعظيم والتمجيد..

    أستحقّ أكثر ممّا هو عندي، وأكثر ممّا يقدّمه لي الناس..
    أنا أفْضَل من كثيرين، وتفكيري أعلى منهم..

    بدون دوري لم يكن العمل لينجح فأنا شخص مؤثّر..
    لا أقبل أن يُقلِّل أحدٌ من شأني أبدًا، أو يُنتَقَص من كرامتي!

    عندما تسيطر هذه الأفكار على أيّ إنسان، فإنّه لن يميل إلاّ للأمور العالية، وسيتطلّع دائمًا للشُهرة والغِنى.. أمّا خدمة الفقراء والاهتمام بهم، وقضاء وقت في خدمتهم، فهذا بالقطع لن يجد أنّه يناسبه!

    سنلاحظ هنا أنّ هذا الإنسان يتمحور حول ذاته بالكامل.

    أمّا عن بداية فكر الكبرياء، فهي تكون بفِكرةٍ تأتينا من داخلنا أو من الخارج، من الشيطان أو من الناس.. ونقتنع بها ونتبنّاها، وتملأ عقولنا وقلوبنا فنصير متكبّرين.. وقد يَدَّعي هذا الصنف من الناس التواضع بأنْ يقول بعض العبارات المظهريّة مثل: "أنا إنسان ضعيف أو خاطئ"، ولكنّه سرعان ما ينكشف إذا حاول أحدٌ أن يصحّح له شيئًا أو يوبّخه أو حتى يراجعه في أمرٍ ما، فنجده يرفض ويثور ويغضب، ولا يقبل أبدًا أو يعترف أنّه أخطَأ، وإذا كان الخطأ واضحًا يحاول بكلّ الوسائل أن يبرّر نفسه..!

    أمّا المتواضع فهو يشعر دائمًا أنّه غير مستحق.. وأنّ كلّ الخير الذي عنده والمواهب التي يملكها هي من الله. والله هو صاحب الفضل في كلّ إنجاز أو نجاح.. والله يعمل فيه كما في إناء خزفي رخيص، فيملأه بكنوزه وبركاته.. هذا هو فكر الاتضاع أن يشعر الإنسان بالحقيقة أنّه أقلّ من الجميع وغير مؤهّل وضعيف، ولكنّ الله يعمل فيه ويسند ضعفه.. وفي نفس الوقت قد ينظر إليه الناس أنّه إنسان عظيم وقديس ويستحقّ كلّ خير وكلّ تكريم، ولكنّه لا يرى نفسه هكذا أبدًا بل يظلّ يرى نفسه ضعيفًا وغير مستحق.. أو بتعبير معلّمنا بولس الرسول: "أنا ما أنا... بل نعمة الله التي معي" (1كو15: 10).

    هذا الإحساس بالاتضاع وعدم الاستحقاق هو نعمة من الله، تحتاج إلى صلاة بلجاجة لسنواتٍ طويلة، كي يهبها لنا الله.

    من هنا نفهم معنى المستكبرين بفكر قلوبهم.. فهم يعتبرون أنفسهم أعلى من الآخرين ويضعون أنفسهم في أوّل الصفوف.. ويطلبون الكرامة من الآخرين ويسعون للأضواء باستمرار.. ويكافحون لكي يضعوا أنفسهم في موقع الأعزّاء، وفي سبيل ذلك قد يدوسون على البعض.. بعكس المتّضعين الذين يقدّمون الآخرين على أنفسهم ويختارون المتّكآت الأخيرة.. فالله في عدالته يرفع هؤلاء المتّضعين، ويُنزِل أولئك المتكبّرين عن كراسيهم!

    أمّا معنى التشتيت، فهو أنّهم اهتزّوا وسقطوا وضعفوا وانهاروا وتبعثرت قوّتهم، بعد أن كانوا في موقع السُّلطة والقوّة والتكريم والتعظيم، إذ أنّهم كانوا يطلبون المجد من الناس ولا يطلبون مجد الله باتّضاع حقيقي.

هيّا نتعلّم من أمّنا العذراء كيف ظلّت متواضعة على الرغم من المجد الإلهي العظيم الذي شملها، ونأخُذ معًا تدريبًا نحفظ به نفوسنا في التواضُع؛ بأن نشكر الله في كلّ وقت وعلى كلّ شيء، ونقول له دائمًا أنت صاحب الفضل لأنّك أعطيتني كلّ شيء.. لك كلّ الشكر وكلّ المجد!
القمص يوحنا نصيف
أغسطس 2024