القمص يوحنا نصيف
    في تعليقه الجميل على قصّة الشاب الغني، الذي التمس النصيحة من الربّ يسوع عن الطريقة التي يرث بها الحياة الأبديّة، وكيف ردّ عليه مخلّصنا الصالح (لو18: 18-27)، يقول القدّيس كيرلّس:

    + أتيتُ.. متوسِّلاً إلى المسيح مخلِّصنا جميعًا، أن يمنح نورَهُ الإلهي لذهني، ويعطيَ نُطقًا للساني، لكي ما أنتفع أنا وأنتم معًا. لأنّ بولس كتَبَ يقول: "يجب أنّ الحرّاث الذي يتعب، يأكُل هو أوّلاً من الأثمار" (2تي2: 6).

    + أوضحنا أنّ الابن صالح بالطبيعة وبالحقّ، مثل ذاك الذي ولده.. إذن ماذا يقول رئيس مجمع اليهود؟ "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟" إنّه لا يسأل بقصد أن يتعلّم، وإلاّ لكان سؤاله جديرًا بكلّ ثناء، ولكنّ قصده هو أن يُبَرهِن أنّ المسيح لم يسمح لهم أن يحتفظوا بوصايا موسى، بل بالأحرى قاد تلاميذه وأتباعه إلى قوانين جديدة اشترعها من نفسه!

    + توقَّع رئيس المجمع أن يسمع المسيح كأنّه يقول: "كُفّ أيّها الإنسان عن كتابات موسى. تَخَلَّى عن الظلّ. إنّها مجرّد مثالات وليس أكثر. اقترب بالأحرى من وصاياي". لكنّه لم يُجِبْهُ هكذا.. إنّه وَجَّهَ الرجل.. "أنت تعرف الوصايا".

    + بينما كان يُمكِنه أن يقول: "طوبى للمساكين بالروح لأنّ لهم ملكوت السموات. طوبى للودعاء. طوبى لأنقياء القلب" (مت5: 3-8)، فإنّه لم يقُل شيئًا من هذا القبيل، لكن لأنّ الفريسي كان مُحِبًّا للمال وكان غنيًّا جدًّا، فقد انتقل المسيح في الحال لِما سوف يُحزِنه، وقال له: "بع كلّ مالك، ووَزّع على الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَ اتبعني".

    + كان هذا الكلام مصدر عذاب وألَم لقلب ذلك الإنسان الجشِع، الذي كان يتباهى بنفسِه بسبب حفظه للناموس، وهذا برهَنَ على أنّه هشّ وضعيف أيضًا، وهو عمومًا غير مستعدّ لتقبُّل رسالة الإنجيل الجديدة.. رئيس المجمع برهن أنّه ليس سوى زِقّ عتيق لا يمكنه أن يحفظ الخمر الجديد، بل يَنشَقّ ويصير عديم الفائدة، ذلك لأنّه حزن مع أنّه نال درسًا كان يمكن أن يجعله يربح الحياة الأبديّة.

    + أمّا أولئك الذين قبلوا في داخلهم -بالإيمان- ذلك الذي يجعل كلّ الأشياء جديدة -أي المسيح- فإنّهم لا ينشَقُّون إلى نصفين بنوالهم الخمر الجديدة منه. لأنّهم حينما اقتبلوا منه رسالة الإنجيل التي تُبهِج قلبَ الإنسان، ارتفعوا فوق الغِنى ومحبّة المال، وتوطَّدَ ذهنهم في الشجاعة، ولم يُقيموا وزنًا للأشياء الوقتيّة، بل بالأحرى عطشوا إلى الأمور الأبديّة، وأكرموا الفقر الاختياري، وكانوا مجتهدين في محبّتهم للإخوة.

    + أمّا رئيس المجمع، فلأنّه كان ضعيفًا جدًّا في عزمه، ولم يستطِع أن يُذعِنَ لسماع نصيحة بيع مقتنياته، رغم أنّها ستكون لخيره، ولها مكافأة جزيلة، فإنّ ربّنا كشف المرض الذي كان يربض داخل قلب الرجل الغني، وقال: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأنّ دخول جمل من ثقب إبرة أيسر مِن دخول غني إلى ملكوت الله".

    + لا يقصد المسيح بالجمل هنا ذلك الحيوان، إنّما ذلك الحَبْل الغليظ، لأنّه كانت عادة أولئك المتمرّسون أن يسمّوا الحبل الغليظ جَمَلاً.

    + لكن لاحِظوا أنّه لم يقطع تمامًا رجاء الأغنياء، بل حفظ لهم موضِعًا وطريقًا للخلاص، لأنّه لم يقُل إنّه يستحيل على الغنيّ أن يدخل، بل قال إنّه يُمكِنُهُ إنّما بصعوبة.

    + عندما سمع التلاميذ الطوباويّون هذه الكلمات، اعترضوا قائلين: "فمَن يستطيع أن يَخلُص؟" وكان احتجاجهم لصالح أولئك الذين لهم أموال ومقتنيات، لأنّهم (التلاميذ) كانوا يقولون: إنّنا نعرف أنّ لا أحد سيقتنع بأن يتخلّى عن ثروته وغناه، فمَن يستطيع أن يخلُص؟ لكن بماذا أجاب الرب؟ "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله".

    + المخلّص نفسه أظهر لنا كيف وبأيّ طريقة يمكن أن يحدث هذا إذ قال: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتّى إذا فُنيتم يقبلونكم في المظالّ الأبديّة" (لو16: 9). لأنّه لا يوجَد شيء يمنع الأغنياء -لو أرادوا- أن يجعلوا الفقراء شركاء ومُقاسِمين لهم في الغِنى الوافِر الذي يمتلكونه.

    + ما الذي يعيق مَن له مقتنيات وافرة من أن يكون لطيفَ المعشَر، ومستعدّ ان يُوَزِّع على الآخَرين، مُسرِعًا إلى العطاء، وان يكون رؤوفًا وممتلئًا بتلك الشفقة الكريمة التي تُرضِي الله. إنّنا سوف نجد أنّ الحرص على تتميم هذا العمل ليس هو بلا مُكافأة ولا عديم النفع، لأنّه مكتوبٌ: "الرحمة تفتخِر على الحكم" (يع2: 13).

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 123) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف