اسحاق ابراهيم

للوهلة الأولى قد يبدو عنوان المقال غريبًا أو غير مستساغ. فهل حقًا هناك "سلفية مسيحية"، خصوصًا وأن السلفية هي أحد مناهج تفسير الإسلام السني، وغالبًا ما يتم ربطها بحركات التطرف والإرهاب المعاصرة، بغض النظر عن ظروف نشأة السلفية كحركة إصلاح داخل الإسلام.

 

أحد الأسباب التي تثير هذا النقاش حالةُ التربص التي يشترك فيها بعض رجال الدين المسيحي مع شيوخ الحركات السلفية المصرية ضد كل ما يخالف رؤاهم الدينية والاجتماعية المحافظة، التي تتجاوز الاشتباك الفكري الصحي والمطلوب، إلى التحريض وفرض الوصاية على المجتمع والأفراد.

 

فمثلًا، أثار إعلان بعض الكُتَّاب والشخصيات المعروفة في مايو/أيار الماضي تدشين مؤسسة تكوين الفكر العربي، التي تُعنى"بمد جسور التعاون بين الثقافات المختلفة" حسب موقعها على الإنترنت، الكثير من الجدل والنقد. على الفور، دخل الأنبا إرميا الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي والأنبا أغاثون أسقف مغاغة على خط هذا السجال حول المؤسسة وأهدافها. فأصدر كل منهما بيانًا لتأييد الآراء التي تهاجم المؤسسة والقائمين عليها وتدعو لإغلاقها.

 

تحالف سلفي يواجه التجديد

أكد الأنبا إرميا رفضه بشدة "إنكار السنة المشرفة والتقليد الكنسي السابق للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد"، والتعهد بمواجهتها بقوة، ونشر الوعي والحفاظ على الثوابت الدينية. فيما هاجم بيان الأنبا أغاثون الذي حمل عنوان مركز تكوين بين القبول والرفض المركز ومؤسسيه، بحجة أن لديهم آراء تهاجم الإيمان المسيحي، وأن المركز يؤيد ما يسميه "الدين الإبراهيمي الموحد"، قائلًا "إنهم يريدون تأويل النص لقبول الدين الإبراهيمي الموحد والمثلية الجنسية وكهنوت المرأة والإلحاد والانحراف الأخلاقي".

تستند التيارات السلفية المسيحية والإسلامية على مصدرين للقوة والقدرة على الترهيب وتغلغل نفوذها في المجتمع

السؤال الذي يقفز إلى الذهن؛ ما الذي يدعو أسقفين مسؤولين في الكنيسة الأرثوذكسية للاشتباك مع قضية إسلامية خالصة، لا علاقة لها بالمؤسسة التي ينتميان إليها أو بدوريهما فيها، لا سيما أن الأول أكد رفضه إنكار السنة النبوية التي تتضمن أحاديث ناقدة للمسيحية كديانة، سواء على مستوى اللاهوت أو الممارسة، فيما استخدم الثاني خطابًا شعبويًا لمهاجمة المركز من قبيل دعم الإلحاد والمثلية الجنسية؟

 

هنا، يجب التأكيد أنه بعيدًا عن الجدل حول أهداف مركز تكوين ودوره ومدى الحاجة إليه وشخصيات مؤسسيه، وعدم وجود ما يسمى الدين الإبراهيمي الموحد، فكل هذا ليس موضوعنا، يحق لكل شخص أو مجموعة التعبير عن الرأي في أي قضية والانخراط في النقاش حولها ومحاولة جذب المؤيدين، حتى لو كانت هذه القضية دينية. وبالتأكيد، يجب ألا يُرهب أصحابها حتى لو جاءت آراؤهم غربية أو مرفوضة من أغلبية المواطنين، فالفِكر يُرَدُّ عليه بالفِكر، طالما لا يدعو إلى التمييز أو يحضُّ على العنف.

 

نعود إلى موضوعنا الأساسي: يؤشر البيانان السابقان إلى وجود سلفية مسيحية تشترك مع نظيرتها الإسلامية في رؤيتها المحافظة، ومحاولة فرضها عنوة، ومنع الاتجاهات والآراء الدينية المخالفة لها. كلاهما يعتبر نفسه مالك التوكيل الحصري للحديث عن الدين وتفسيره. السلفية المسيحية أكبر من مجرد تطرف فكري عند البعض، لأنها تمثل تيارًا معتبرًا شبه منظم داخل الكنيسة والأقباط.

 

يؤمن السلفيون المسيحيون بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، ويقدسون الرسل وآباء الكنيسة حتى الذين فارقوا الحياة منذ بضع سنوات، يعاملون أقوالهم وكأنها نصوص دينية لا تمس، فالنص أهم من الإنسان وحياته وراحته.

 

لا يقدم هذا التيار نفسه باعتباره حركة إصلاح ديني ضد التخلف والممارسات والسلوكيات الخاطئة والدخيلة التي تنافي العقل، لكن بكونه تيارًا محافظًا اجتماعيًا وثقافيًا، يتمسك بجمود الفكر الديني، وبما يمكن وصفه بمقاومة الإصلاح والتغيير.

 

وتستند التيارات السلفية المسيحية والإسلامية على مصدرين للقوة؛ القدرة على الترهيب والإسكات أو الاستبعاد، وتغلغل نفوذها السياسي والاجتماعي. 

 

التخويف والتغلغل

إذا كان التكفير هو السلاح الأقوى للسلفية الإسلامية ضد المختلفين معها، كنوعٍ من الترهيب والتهديد لإسكات صوتهم، فإن السلفية المسيحية لديها ما يشبه التكفير، وهو الاتهام بالهرطقة. كل ما هو غير أرثوذكسي عندهم مهرطق، وخارج عن الإيمان السليم، ومصيره بائس على الأرض وفي السماء، لدرجة أن البعض وجه سهام نقده إلى البابا تواضروس، رأس الكنيسة القبطية، لأنه حاول التقارب مع الكنائس الأخرى وأبدى قليلًا من المرونة في بعض القضايا الدينية. طبعًا لا يقتصر الأمر على الأرثوذكس وحدهم، بل يمتد إلى بعض المنتمين للكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية.

 

ينطلق هؤلاء من اعتقاد لا أساس له بأنهم مسؤولون وحدهم عن حماية الدين، وثوابته، والدفاع عنه، وأن وجود آراء مخالفة يهدد تماسك الدين، ومن ثَمَّ يُعرِّضه للانقسام والذوبان.

 

تكاد تتطابق مواقف أنصار السلفية المسيحية والإسلامية في القضايا الثقافية والاجتماعية والحقوقية

 

أما مصدر القوة الثاني، فناتج عن العلاقة مع السلطة السياسية، عادة ما يملك قادة هذه التيارات نفوذًا ومصالحَ تتخطى الأدوار الدينية واللاهوتية إلى مجالات متشعبة اقتصاديًا واجتماعيًا، وهو ما يفسر حضور هذا التيار في المجال العام، وإعطاء مساحات لقادته في التعبير عن رؤاهم المتشددة واستغلالها أحيانًا للحشد في المناسبات السياسية أو التمويه عن بعض القضايا الاجتماعية.

 

الأنبا إرميا على سبيل المثال هو الأمين العام المساعد لبيت العائلة المصري، ذي السمعة السيئة في التعامل مع التوترات والاعتداءات الطائفية، كما أنه دائم الحضور في المناسبات الإسلامية والعامة، ويكتب بانتظام مقالات أسبوعية في عدة صحف منذ سنوات طويلة عن تاريخ وأمجاد الدولة الإسلامية وخلفائها ووُلاتها.

 

تكاد تتطابق مواقف أنصار السلفية المسيحية والإسلامية في القضايا الثقافية والاجتماعية والحقوقية، كالموقف من الحريات الخاصة والعامة. مثال على ذلك الموقف من قضايا المرأة وحقوقها وأدوارها المختلفة. وبالإضافة إلى تغييب تأثيرها داخل المؤسسات الدينية والاجتماعية بشكل عام، وتنميط وجودها، فهي عندهم مصدر للخطايا والمعاصي، ومن ثم الحديث دائم ولا ينقطع بمناسبة وبدون مناسبة عن ملابسها وسلوكياتها ومسؤولية الرجل عنها.

 

عندهم أيضًا التحرش، كظاهرة مرفوضة اجتماعيًا ومُجرَّمة قانونًا، تقع بسبب ملابس المرأة، ومن ثم طريقة معالجتها تبدأ بالمرأة التي عليها الاحتشام في ملابسها وسلوكياتها. هذا أسقف يخصص كشافة على باب الكنيسة لتقييم ملابس من يدخلن، وإذا كانت في عرفه الملابس غير مطابقة للمواصفات يسلمهنَّ "بوليرو" بأكمام كشرط للدخول.

 

كما تحدث الواعظ المشهور القس داود لمعي عن الموضوع قائلًا "ستات وبنات داخلين الكنيسة بلبس غير لائق.. مش عارف اللي جاي يدخل بيت ربنا المفروض عنده خوف من ربنا. اللبس الخليع أو اللبس غير اللائق يؤكد أنه مفيش خوف من ربنا". وأضاف أن "كل رجل يترك زوجته تلبس مثل هذه الملابس غير المحتشمة، سيُسأل أمام الله لأنه لا كلمة له في بيته".

 

الموقف من العلم إحدى القضايا التي تتفق عليها السلفية المسيحية مع نظيرتها الإسلامية، فالدين يسمو، والعلم بنظرياته مُسخَّر لرؤيتهم الدينية. وفي حال الاختلاف، فالنص هو المرجعية، حتى في أوقات الأزمات الطارئة.

 

كلنا نتذكر الجدل الديني الذي أثارته الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها مؤسسات الدولة ومن بينها الدينية، للحد من انتشار فيروس كورونا قبل أربع سنوات، بداية من تقديم الجائحة باعتبارها عقابًا إلهيًّا اتهم أحد أشهر القساوسة بالقاهرة منكريه بالهرطقة، مرورًا بالأسقف الذي قال "لو فيه عدد قليل من أسيوط هيصلي من كل قلبهم كورونا مش هيقرب مننا"، مطالبًا الجموع بترديد العبارة خلفه بينما يكررها، انتهاءً بالرفض القاطع لتغيير طريقة التناول المتعارف عليها في الكنيسة الأرثوذكسية عن طريق ملعقة التناول، والأخذ بتجربة بعض الكنائس الأخرى.

 

في الختام، تستفيد السلفية المسيحية من نظيرتها الإسلامية والعكس صحيح؛ كلاهما يعزز الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية، لكن ما يُصعِّب مواجهة السلفية المسيحية أنها مستترة، لا يعترف أصحاب هذا الفكر بأنهم متطرفون لآرائهم أو أن ما يقومون به ينتهك حقوق غيرهم.

 

 

يتحدثون عن احترام الرأي الآخر وعن حق الاختلاف، بل يهاجمون التطرف الفكري الإسلامي، لكن عندما يتعلق الأمر بتهديد سلطة المؤسسة الدينية، فإنهم يتحولون إلى ضباع تنقض على المختلفين معها.

نقلا عن المنصة