فؤاد إبراهيم
تصوير عماد جرجس
في مؤتمر قبطى عُقِد في روما في عام 2019، قال نيافة الأنبا موسى أسقف الشباب:
 
"الأنبا ميشائيل عمل من الدير منارة في أوربا، يلجأ إليها الشباب من كل أوروبا علشان ياخدوا بركته وبركة الدير".
 
بعد عام واحد من نياحة أبينا الأنبا ميشائيل، أسقف جنوب ألمانيا ورئيس دير الأنبا أنطونيوس بكريفلباخ ومدير الكلية الإكليريكية الملحقة بالدير، لم يبق من كل هذا إلاّ أشباحًا. وبما أن التنقيب عن الأسباب قد يؤديإلى كشف حقائق  مُحرِجة لكثيرين، فسوف أكتفى بالبكاء على اللبن المسكوب في مناسبة الذكرى الأولى لنياحة أبينا القدّيس الأنبا ميشائيل في 5 أغسطس 2024.
 
دعونا أولاً نوضِّح  معنى هذه الشهادة القوية من نيافة أسقف الشباب، لكي نتعرَّف على معالم ذلك العصر الذهبي للأنبا ميشائيل، قبل أن تذوب في بحر النسيان:
 
مفهوم الرهبنة الخادمة عند الأنبا ميشائيل:
أسس مثلث الرحمات الأنبا ميشائيل مبدأ الرهبنة الخادمة في دير القديس الأنبا أنطونيوس في كريفلباخ وجعل من الدير خادمًا للشعب في ألمانيا وخارجها على مدار 43 عامًا. وقد إتّبع بذلك نهج الآباء القديسين الأوائل الذين سلكوا نفس المسلك. فلدينا مثالان بارزان للرهبنة الخادمة، هما القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، والقديس الأنبا باخوميوس أب الشركة. وها نحن قد عاينّا الرهبنة الخادمة في عصرنا هذا في دير الأنبا أنطونيوس في كريفلباخ بألمانيا.
 
فلنتأمل في سيرة هذين القديسين لنرى مدى التطابق بينها وبين سيرة أبينا الأنبا ميشائيل:    
كان القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين خادمًا للمجتمع، وتميَّز بقيادة رهبانه لخدمة الكنيسة. وكانت أديرته مفتوحة لإطعام الجياع وكساء العرايا٠والمدارس الملحقة بالأديرة وفَّرت التعليم للرهبان والعلمانيين. كما أن الرهبان من الأطباء التزموا بمعالجة الشعب مثلما كانوا يعالجون إخوتهم الرهبان. (وهو ما كان يفعله أبينا الطوباوي وهو بيننا).
 
فكما حدث في أيام القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين حين هجمت قبيلة من البربر اسمها  "الباجات" على منطقة أخميم وأخذت العديد من الرجال والنساء سبايا واستولت على غنائم كثيرة. فلما وصل الخبر إلى الأنبا شنوده عبر النيل لحق بالجماعة إلى الجهة الغربية، وواجه قائدها، وقال له: "خُذ الغنائم واعطني الشعب"٠ وفي الحال رحَّب القائد بذلك وتسلَّم القديس عشرين ألف نفس. فآواهم جميعًا في الأديرة ثلاثة أشهر، وكان الأطباء من الرهبان يقومون بمعالجة المرضى، والمعلمون بتعليم الأطفال، والمكلَّفون بخدمة الضعفاء يهتمون بالشيوخ. وفي تلك الفترة مات أربعة وتسعون من هؤلاء اللاجئين، ووُلد اثنان وخمسون طفلاً، واستهلكوا في طعامهم ثمانين ألف أردب من الحبوب، إلى أن أُعيد توطينهم في بلادهم. 
 
(يذكِّرنا هذا بما كان يفعله نيافة الأنبا ميشائيل من استضافة كل وافد في الدير إلى حين تدبير أموره مع توفير كل سبل الإقامة للضيف. فقد إعتبر الأنبا ميشائيل ديره فى حالة اسثنائية، وليس كأديرة مصر، إذ أدرك أن أقباط المهجر في الشتات في خطرٍ داهم وفي مسيس الحاجة إلى رعاية مركَّزة لجذبهم إلى حظيرة الرب وحِفظهم داخلها فيأمان).
 
مثال آخر هو القديس الأنبا باخوميوس أب الشركة، فمع حبه الشديد لأولاده ورِقّته في التعامل وطول أناته اهتم أيضًا بإعالة المحتاجين والضعفاء، إذ اشتمل الدير على مستشفى وبيت للضيافة. ولما انتشر وباء الطاعون في صعيد مصر نظَّم الخدمة لرعاية المرضى المصابين بهذا الداء. 
 
ورأينا في جيلنا هذا أبينا الطوباوي الأنبا ميشائيل يقدِّم كل اهتمام ورعاية لمن يحتاج من الزوار أو الوافدين في أبوة حقيقية. 
 
(أنظركتاب: الترهُّب والخدمة – نداء العصر. للأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف (  2000) وراهبات دير بنات مريم ببنى سويف. القاهرة، 1988)
https://coptic -treasures.com
 
الدور الرعوي للدير
أعظم خدمة كان يقدِّمها الديرتحت رعاية أبونا ميخائيل وحبرية الأنبا ميشائيل هي الرعاية الروحية للشعب القبطي في المهجر. وكان لأبونا ميخائيل أولادًا روحيين من كل أوروبا لا يُحصى عددهم، وكانوا يزورونه ويتصلون به تليفونيًا ليأخذوا منه بركة أو مشورة صالحة عندما تصادفهم مشكلة في حياتهم، سواءً كانت مشكلة روحية أو عائلية أو دراسية أو صحية أو تربوية أو مشكلة في العمل أو تصريح الإقامة. وكنا دائمًا نجد طابورًا من المنتظرين دورهم أمام حجرة مكتبه أو جالسين في الكنيسة للاعتراف. وهكذا وصل القديس الأنبا أنطونيوس وخادمه الأمين إلى أعماق قلوب الشعب القبطي في غربة المهجر الأوروبي، وصارت بركتهما المعزِّية بلسمًا للنفوس، فكانوا يسافرون مسافات طويلة إلى ديرهم المحبوب، محتملين كل مشقّة، رغم كثرة مشاكلهم كمغتربين في المهجر بعيدًا عن كنيستنا الأم والوطن والعائلة والأصدقاء. ولهذا اعتبر الأقباط هذا الدير مزارًا هامًا يقصدونه كثيرًا بعائلاتهم أوكمشتركين في رحلات جماعية لكنائسهم من كل أنحاء أوروبا لقضاء عدة أيام للخلوة والتعبّد في رحاب القديسين. وهكذا أصبح دير الأنبا انطونيوس بكريفيلباخ لأقباط المهجر الأوروبي، مثل أديرة القديسين المحبوبة فى مصر، مزارًا مقدسًا ينسون فيه خِضم الحياة، ويرجعون منه ممتلئين بالنعمة والروح القدس كذخيرة حية تعزّي نفوسهم وتساعدهم على مصارعة العالم من جديد.
 
كما كان لأبونا ميخائيل دورٌ هام في رعاية أقباط السودان، عندما هاجر جزءٌ منهم إلى ألمانيا ابتداءً من عام  1989 عندما اشتدّ اِضطهادهم هناك. وكذلك اِهتم بالرعاية الروحية للاجئين الإرتريين الذين صاروا جزءًا هامًا من شعب كنيسة دير الأنبا أنطونيوس.
 
ومن الأدلة القوية على أهمية الدير ومكانة أبونا ميخائيل في قلوب الأسر القبطية أن عددًا كبيرًا من الأسر القبطية نقلت مكان سكنها إلى الأماكن والقرى والمدن المحيطة بالدير رغم أنه في منطقة نائية نسبيًا وتقل بها فرص العمل. وكان يقصد الدير حوالي 250 شخصًا يوم الأحد، رغم أن كنائسنا في معظم المدن الكبرى في ألمانيا لا يتعدّى الحضور فيها يوم الأحد نصف هذا العدد من المصلّين. 
 
ومن يدّعى اليوم أن هذه الخدمة الرعوية لا تمُتّ للرهبنة بشىء، نحب أن نذكِّره أن القديس البابا كيرلس السادس جنَّد أبونا مكاري السرياني (الأنبا صموئيل) لخدمة أقباط المهجر، وأن البابا شنودة الثالث جنَّد كثيرين من رهبان دير البراموس للرعاية والكرازة في ألمانيا بالذات. وأن البابا تواضروس الثانى قد سار أيضا على خُطى هؤلاء البطاركة القديسين.
 
والدليل الواضح على أن الأنبا ميشائيل كان يعتبر أن للرهبنة في المهجر دور رعوي وكرازي أعظم من التعبُّد والتقشُّف "الرهباني" هو أنه أقام كنيسة ضخمة وأربع استراحات كبيرة واشترى مدرسة قريبة من الدير لتكون مبنىً خاصًا بالكلية الإكليريكية. معظم هذا المعمار قد تم قبل أن يُرسم هو أسقفًا، وقبل رسامة أي راهب للدير بسنواتٍ عديدة. فأنجز فوق أرض الدير الشاسعة ما يلى:
 
+  مبنى الكنيسة الكبيرة الذي يتكون من كنيستين: الكنيسة الرئيسية توجد في الطابق العلوي. وفي الطابق الأرضي كنيسة العذراء مريم بنفس مساحة الكنيسة العلوية وتُستخدم  لقداسات الأطفال والشباب بالموازاة للكنيسة العليا في الأعياد وأيام الآحاد في فصل الصيف لكثرة المصلين في هذا الفصل.
+  مبنى الرهبان الذي لا يُسمح للزوار بدخوله، وهو مُحاط بسور، ويقع في الجزء الخلفي من المُجمّع بأكمله. به 24 قلاية "بمحابسها". وهناك أيضًا توجدمدافن الشعب القبطي وحديقة منفصلة خاصة  بالرهبان. وفي مبنى الدير، توجد مكتبة كبيرة وكنيسة صغيرة للرهبان، كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل. 
+  ثلاث مبانٍ كبيرة جديدة ومجدَّدة بها صالات المؤتمرات والأغابي ومكتبة الزوار والمطابخ والمخازن ودورات المياه و79 حجرة لإقامة الزوار.
+ اشترى الأنبا ميشائيل مدرسة وأصلحها لتصبح مبنى الكلية الإكليريكية التي أُنشئت بقرار باباوي عام 2002 وتخرج منها 115 خريجة وخريج من ألمانيا والدول المجاورة. ومعظم الخريجين الآن شمامسه ويعملون مدرسات ومدرسين للتربيه الكنسيه وخدامًا في كنائسهم ومدرسين في الكليه الاكليريكيه. وقد نال 16 منهم سر الكهنوت فيألمانيا والنمسا وسويسرا وبلݘيكا وفرنسا وانجلترا.
 
وكان الهدف الرئيسى للراهب ميخائيل البراموسيمن تأسيس الكلية الإكليركية هو تمكين أقباط المهجر من الدفاع عن عقيدتهم القبطية المستقيمة في مواجهة الإلحاد والبدع والإنحرافات السائدة فيأوروبا.
 
إن سر إنجذاب الشباب الذي لامثيل له للدير وكليته الإكليريكية يرجع بلا شك إلى فيض الحب العظيم الذي كان يُغدقه أبونا ميخائيل على أولاده، واستجابتهم له بالمثل بحبٍ غامر. وكان كلٌ منهم يشعر بأنه ابن عزيز أو ابنة عزيزة لأبونا ميخائيل.
 
 
في حبرية الأنبا ميشائيل كان دير الأنبا أنطونيوس محبوبًا لشباب كل أوروبا، وفي هذا المكان زادت محبتهم للمسيح. فيا ليت الشباب يعود يومًاإلى الدير، ونفهم جميعًا كيف كان سيدنا يربح النفوس
 
الدور الكرازي للأنبا ميشائيل
بالإضافة إلى الرعاية الدينية للشعب القبطي في المهجر بذل الأنبا ميشائيل مجهودًا كبيرًا في الكرازة باسم ربنا يسوع المسيح. وقام بتعميد عدد كبير ممن آمنوا بالمسيح على يديه أو أرادوا أن ينتموا إلى المسيحية الأرثوذكسية. وجرن المعمودية الكبير بالدير مُصمَّم لتعميد الكبار والأطفال.
 
وهكذا ساهم الأنبا ميشائيل بقوة في إحياء الدور الكرازي للرهبنة القبطية في أوروبا التي بدأهاالقديس الأنبا أثناسيوس الرسولي في ترير والرهبان الأقباط في أيرلندا في العصور الأولى للمسيحية. 
 
وقد اكتسب دير الأنبا أنطونيوس منذ أول وهلة ثقة الهيئات الحكومية والكنائس الألمانية. فقد قال عمدة كريفيلباخ في فيلم بثته القنوات الألمانية وقناة أغابي في عام 2007: "إن هذا الدير بركة لكريفيلباخ". وقال المونسونير الدكتور راوخ مدير معهد الكنائس الشرقية بريجنزبورج: "إن أبونا ميخائيل مثلاً حيًا للرهبنة القبطية في القرون الأولى".
 
وفي إحدى زياراتنا للدير، حضرنا بمحض الصدفة المراسيم النهائية لطقس المعمودية لأسرة ألمانية بأكملها. فتذكرنا كيف كان بولس الرسول يُعمِّد شخصًا مرموقًا وكل أهل بيته. وكان الأنبا ميشائيل لا يتكلّم إطلاقًا عن هذه المعموديات، وإنما كنا نفاجأ بها في الزفّة بعد القدّاس.  
 
وتضمّن العمل الكرازى فى دير الأنبا أنطونيوس بألمانيا إقامة مؤتمرات ومحاضرات وندوات للألمان: هنا تشرح أماني (ماريا فيدا)، خريجة الكلية الإكليريكية بالدير، لمجموعة من الطالبات والطلبة الألمان إيمان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ونراهم يتابعونها باهتمام شديد
 
بعد هذه اللمحة السريعة عن العمل الرعوى للراهب أبونا ميخائيل قبل أن يُسام أسقفًا باسم أنبا ميشائيل نتساءل:
 ماذا يكمن الآنوراء تهميش إنجازاته، وغلق مجمَّع دير الأنبا أنطونيوس بكل ضخامته أمام الشعب وقصر الإقامة فيه على قليل من الرهبان، وغلق الكلية الإكليريكيةوترك الشعب يضرب أخماسًا في أسداس وفريسة لشتَّىالإشاعات الغريبة ؟! 
 
وهنايجبأن نذكر سببًا أساسيًا للإنهيار الذي يحدث أحيانًاكثيرة بعد وفاة حبرٍ قبطي جليل: ألا وهو أن كنيستنا تُدار بالأشخاص وليس بالمؤسسات، تمامًا مثلما يحدث في الدول الغير الديموقراطية، التي توجدبها مؤسسات شكلية للإيحاء فقط بوجود حرية الرأى، ولكن في الواقع يكون القرار النهائي والأخير لشخص واحد أوحد، يمسك دون غيره بزِمام الأمور. وأمّا شعب الكنيسة، الذي هو في الحقيقة جسد المسيح، فليس له أى اعتبار! وهاهو عامٌ قد انصرم على نياحة أبينا الحبيب ولم يُعير أحد أي إهتمام برأي شعب الكنيسة المتضرِّر!