القمص يوحنا نصيف
    في إحدى المرّات، قَدّم الجموعُ لربنا يسوع المسيح مجموعةً من الأطفال ليباركهم، ولَمّا منعهم بعض التلاميذ، قال الرب: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأنّ لمِثل هؤلاء ملكوت الله. الحقّ أقول لكم: مَن لا يَقبَل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله" (لو18: 15-17)، ويُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذا الموقف قائلاً:

    + المسيح يفتح لنا طُرُقَ الخلاص على مصاريعها، لأنّ هدفه هو أن يُخَلِّص سُكان الأرض.. ويجعلهم ماهرين في كلّ فضيلة، لكي بامتلائهم بكلّ ثمر الروح يكونوا مقبولين.

    + إنّ أمهاتهم هُنّ اللاتي قَدَّمْنَ الأطفال طالبين بركةً، وملتمسين لمسة يده المقدّسة لأطفالهنّ. أمّا التلاميذ المباركون فقد انتهروهنّ على فِعلتهنّ هذه، ليس لأنّهم غاروا من الأولاد، بل بالأحرى فعلوا هذا على سبيل الاحترام الواجب لمعلّمهم، وإن جاز القول، لكي يُجَنِّبوه أتعابًا غير ضروريّة، مُعطِين للنظام اهتمامًا كبيرًا.

    + الأطفال إلى الآن يُقَرَّبون (أي يُعَمَّدون ويُمسَحون بالميرون ويتناولون) ويبارَكون من المسيح، عن طريق الأيادي المُكَرَّسة. ونموذج هذا الفِعل لا يزال مستمرًّا إلى هذا اليوم، وقد انحدر إلينا من عادة المسيح كينبوع لهذه البركة. ولكن لا يتم تقديم الأطفال بطريقة غير لائقة أو مُشَوَّشة، بل بترتيب ووقار ومخافة.

    + تعالوا نفحص بعناية أيّ نوعٍ من الأشخاص يلزَم أن يكون أولئك الذين يريدون الحياة الأبديّة، والذين هم مُغرَمون بملكوت السموات.. المخلِّص يشرح لنا في موضع آخَر كيف يمكن للإنسان أن يكون بسيطًا وذكيًّا بآنٍ واحد؛ وذلك بقوله: "كونوا حُكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام" (مت10: 16)، ويكتب أيضًأ بالمِثل بولس المبارك: "أيّها الإخوة لا تكونوا أولادًا في أذهانكم، بل كونوا أولادًا في الشرّ، أمّا في الأذهان فكونوا كاملين" (1كو14: 20).

    + من الضروري هنا أن نفحص ما معنى أن نكون أطفالاً في الشرّ، وكيف يصير الإنسان هكذا، أمّا في ذهنه فيكون كاملاً. فالطفل، بسبب أنّه يعرف القليل جدًّا أو لا يعرف أيّ شيءٍ مطلَقًا، يُعفَى بعدلٍ من تهمة الانحراف والشرّ. هكذا أيضًا من واجبنا أن نسعى للتَمَثُّل بهم بنفس الطريقة؛ بأن نطرح عنّا تمامًا عادات الشرّ، لكي نُعتَبَر كأُناسٍ لا يعرفون حتّى الطريق المؤدِّي للخداع، بل كَمَن لا يعرفون الخبث والاحتيال، وهكذا يعيشون بأسلوبٍ بسيط وبريء، ويُمارِسون اللطف والاتضاع الفائق الثمن، كما يمتنعون بسهولة عن الغضب والحِقد.. هذه الصفات هي التي توجَد في أولئك الذين لا يزالون أطفالاً.

    + بينما تكون صفاتُنا هكذا في البساطة والبراءة، فإنّه ينبغي أن نكون كاملين في الذِّهن.. يلزم أن يكون ذهننا ثابتًا بقوّة، وواثِقًا وغير متزعزعٍ في تمسُّكه بالإله الحيّ الحقيقي، ويلزمنا أيضًا أن نهرب من الشِّراك الأُخرى، ونبتعد عن أحجار العثرة التي يضعها إبليس، وأعني بها أولئك الناس الذين يُفسِدون التعليم المستقيم عن الله، ويُزَيِّفون الحقّ.. ويتكلّمون بالشرّ ضدّ الله. إنّهم يتقيَّأون أفكارًا من داخل قلوبهم، ويُضِلُّون نفوس البُسَطاء، ويُحارِبون ضدّ مجد ابن الله الوحيد، ويقولون أنّه ينبغي أن يُحصَى ضمن المخلوقات (يقصد هنا الأريوسيّين)، بينما هم جميعًا قد جاءوا إلى الوجود بواسطته. هؤلاء يجلبون على رؤوسهم دينونة صارِمة وحتميّة، ولا يخشَون أن يقولوا نفس هذه الأشياء أيضًا ضدّ الروح القدس.. ينبغي أن نَعرِض عن مثل هؤلاء الناس بعيدًا..

    + الكمال الرئيسي للذِّهن هو أن يترسَّخ في الإيمان، وأن يكون فهمنا غير فاسد. والكمال الثاني الذي يجاور هذا الكمال الرئيسي، ومُماثِل له، بل ورفيقه الدائم، هو المعرفة الواضحة لطريق السلوك الذي يُرضِي الله، والذي نتعلّمه من الإنجيل، والذي هو كامل وبلا لوم.

    + أولئك الذين يسيرون في هذا الطريق يعيشون حياة البساطة والبراءة، كما أنّهم يعرِفون أيَّة آراء ينبغي أن يتمسّكوا بها، وأيّة أفعال صائبة ينبغي عليهم أن يفعلوها. هؤلاء يدخلون من الباب الضيِّق، ولا يرفضون تلك الأتعاب التي تتطلّبها التقوى نحو الله، ولا تلك الأتعاب الضروريّة لأن يحيوا حياةً مجيدةً. وهكذا فإنّهم يتقدّمون كما يجب إلى اتّساع الفيض الذي هو نحو الله، ويبتهِجون بعطاياه، ويربحون لأنفسِهم ملكوت السموات.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 121) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف