زاهى حواسى

كانت العاصمة باريس هادئة تمامًا إلا من ضجيج الصحافة الفرنسية التى تتحدث عن العثور على حجرة سرية داخل هرم الملك خوفو. وفور وصولى بادرنى موظف الجوازات بمطار أورلى بالسؤال عن حقيقة ما تنشره الصحافة الفرنسية، وهل صحيح أن هناك حجرة سرية مختفية داخل هرم الملك خوفو بهضبة الجيزة؟. سعدت بهذا السؤال؛ لأنه سهل لى دخول فرنسا دون أى أسئلة أو مضايقات من الجوازات.

 

وفى المساء قبلت دعوة على العشاء مع صديقى الفنان العظيم الراحل عمر الشريف. وعلمت من عمر الشريف أن الصحافة الفرنسية نشرت على لسان مهندسين فرنسيين غير تابعين لمؤسسة علمية يؤيدهما فقط أثرى فرنسى يدّعى أنه متخصص فى التاريخ المصرى القديم، العثور على حجرة سرية أسفل أرضية الحجرة الثانية التى يطلق عليها خطأ اسم حجرة الملكة، وتشير الصحف كما أخبرنى عمر الشريف إلى أن المجلس الأعلى للآثار بمصر يمنعهم من الكشف عن تلك الحجرة السرية المزعومة. ولم تُشِر الصحف إلى أنهم يودون حفر ثقب قطره حوالى ٥ سم فى منتصف الحجرة لكشف هذه الأسرار التى يتحدثون عنها.

 

كنت قد تحدثت كثيرًا فى هذا الموضوع، إلا أننى خلال العشاء وجدت أن عمر الشريف يبدو سعيدًا جدًّا، وكانت هذه المرة من المرات القليلة التى أجده فيها يطلق النكات وينظر إلى معجبيه بحب شديد ويتحدث عن محبوبته الأولى مصر بعشق وهيام وحسرة لأنه يعيش بعيدًا عنها. كان عمر يحكى لنا عن شقاوة الطفولة فى حوارى وأزقة الإسكندرية ثم القاهرة مع صديقه الفنان المرحوم أحمد رمزى. وتطرق الحديث إلى الفيلم الذى كان يقوم بتصويره عن الأسطورة العراقية «جلجاميش»، ويقوم بالبطولة معه الفنان الإنجليزى «بيتر أتول»، الذى يلتقى به لأول مرة بعد فيلم «لورانس العرب». والفيلم كان يتم تصويره فى تركيا نظرًا لصعوبة التصوير فى العراق فى ذلك الوقت. وقد استمرت المناقشات بعد ذلك عن «جلجاميش» وكيف أنه كان من أهم الشخصيات الأسطورية فى تاريخ العراق القديم. وكان واضحًا أن عمر الشريف حافظ السيناريو جيدًا، وذلك على الرغم من أن مدة تصوير دوره كانت حوالى أسبوعين فقط.

 

كان تاريخ العراق وسوريا وفلسطين موضوع دراستى الثانوية بجامعة بنسلفانيا، كما كانت أيضًا قصة البطل الأسطورى «جلجاميش» تستهوينى، فهو ثلثه آدمى والباقى إلهى كما يُعتبر من أعظم ملوك بلاد النهرين وأقواهم. وكبطل أسطورى نال شهرة أكثر من أسطورة «هرقل» وغيرها من الشخصيات الأسطورية. وكان صغيرًا فى السن ويعامل شعبه بقسوة ووحشية وضج الشعب من هذا الظلم وتوسلوا إلى إله السماء «أنو» كى يساعدهم للتخلص من قسوة جلجاميش.

 

ورَقَّ إله السماء لحال الشعب وخلق لهم إنسانًا أسطوريًّا أطلق عليه اسم «إنكيدوا» وأعطى له قدرة جسمانية توازى قوة ١٢ حيوانًا متوحشًا كى يستطيع أن يتغلب على «جلجاميش» ويخلص الشعب من عذابه وكان «إنكيدو» يعيش فى الغابة وقابل سيدة تعمل فى البغاء، وهى التى استطاعت أن تحوله إلى إنسان عاقل ومفكر! وأخذته إلى المدينة ليقابل «جلجاميش» الذى حلم فى نفس الوقت وقبل دخول «إنكيدوا» المدينة بأن هناك صخرة ضخمة سوف تسقط من السماء ولن يستطيع تحريكها، كما حلم أيضًا بأن هناك بلطة أخرى تسقط أمام باب قصره.

 

وفسرت له أمه الحلم بأن هناك إنسانًا أسطوريًّا قويًّا سوف يأتى لمواجهته، وكان «جلجاميش» قد أصدر قرارًا ملكيًّا بأن يُقيم علاقة عاطفية مع كل عروس يوم زفافها قبل أن تدخل عش الزوجية. وعندما حضر «إنكيدوا» إلى المدينة غضب من تسلط وجبروت «جلجاميش» وكان من المفروض فى هذه الليلة أن يقابل «جلجاميش» عروسًا ليلة زفافها. وقرر «إنكيدوا» مواجهته كى يخلص الشعب من ظلمه. وبدأ الصراع بينهما وبالرغم من انتصار «جلجاميش» بعد معركة حامية، فإن «جلجاميش» أعجب بالبطل «إنكيدوا» وأصبحا صديقين، وهنا قرر البطلان البحث عن الشهرة والمجد، وبدآ فى مغامرة معًا فى جنوب العراق كى يقتلعا أشجار الأرز لبناء بوابة مدينة «أوروك» التى أسسها «جلجاميش»، وهناك كان لابد لهما من مقابلة حارس الغابة الضخم. وأثناء المقابلة كان «إنكيدوا» فى المقدمة و«جلجاميش» خلفه لأنه كان خائفًا ولكنهما انتصرا بمساعدة إله الشمس وقطعا الأشجار وأقاما أعظم بوابة للمدينة.

 

وعندما عادا إلى المدينة وجدت الإلهة «عشتار» أن «جلجاميش» هو الشخص المناسب ليكون عشيقًا لها وطلبت منه أن يبادلها الحب؛ إلا أنه رفض لأن كل مَن عشقها كانت تحدث له لعنة من لعنات السماء. وغضبت «عشتار» غضبًا شديدًا لأنه لم يُخلق بعد الإنسان الذى يرفض حبها وطلبت من إله السماء أن تحصل على ثور السماء كى تقتل «جلجاميش» وتدمر المدينة وهددت بأنها إذا لم تحصل على ما تريد فسوف تفتح بوابة جهنم لتُخرج منها الأموات كى يدمروا أهل المدينة. وحصلت «عشتار» على ثور السماء، ولكن الصديقين معًا استطاعا قتله.

 

وبعد ذلك مرض «إنكيدوا» من اللعنة التى صبها عليه الوحش، الذى كان يحرس الغابة، والتى مات بسببها، وحزن عليه صديقه «جلجاميش» حزنًا شديدًا، وأطلق لحيته، وعاش مبتئسًا خائفًا أكثر من الموت وأنه سوف يلقى نفس مصير صديقه. وقابل إله السماء «أنو»، وطلب منه أن يحصل على سر الأبدية ويعيش مدى الحياة، ولكن «أنو» قال له إن هذه هى طبيعة البشر وكل إنسان يجب أن يموت.

 

وفى النهاية قال سوف تحصل على الأبدية إذا استطعت أن تظل مستيقظًا بدون نوم ستة أيام، وإن هذه هى الطريقة للحصول على الحياة الأبدية. وبدأ «جلجاميش» فى تنفيذ هذه الوصية. استغرق فى نوم عميق لمدة ستة أيام، ولكنه بعد أن استيقظ شعر أنه نام دقائق معدودة، إلا أن كمية الخبز الذى صنعته زوجته، والذى لا يُصنع فى فترة أقل من ستة أيام، أثبت له أنه نام بالفعل ستة أيام. واعتقد البعض أن الإله «أنو» هو جده الذى حكى له قصة الطوفان، ويشير إلى أن الإله «أنكى أيا» أخبره بوقوع الفيضان ونصحه بعمل سفينة من سبعة طوابق ويقسم كل طابق منها إلى تسعة أقسام ويجهزها بكل ما يحتاج إليه. وعند حدوث الفيضان جاء الإله إلى السفينة، وأنقذ الجد هو وزوجته، وأصبحا إلهين بعد ذلك.

 

وبعد ذلك أشاروا إلى «جلجاميش» بأنه لو أراد الخلود فهناك نبات مقدس سرى فى قاع المحيط يمكن أن يعطيه الحياة الأبدية ويجعله شابًّا مدى الحياة، واستطاع «جلجاميش» الحصول على النبات، وقرر العودة إلى مدينته وتجربة النبتة على رجل عجوز. وفى طريق عودته إلى المدينة عثر على بركة ماء فنزل للاستحمام وأثناء ذلك أكل ثعبان النبات السحرى. وعاد «جلجاميش» إلى «أوروك» ليواجه نهايته. وتُعتبر أسطورة جلجاميش ملحمة مهمة فى الشعر البابلى، حيث كُتبت فى ١٢ لوحًا، كما أنها تحتوى على ٣٥٠٠ سطر. وقد أطلق عمر الشريف لحيته استعدادًا لتمثيل هذا الدور، أما السبب الآخر فى سعادته فكان لأنه سيبدأ مع بداية العام القادم حينها تصوير دور البطولة لفيلم «العجوز فى البحر Old Man in the Sea» عن قصة الكاتب الكبير إرنست همنجوای. وقد قام بالدور من قبل «سبنسر تراس»، وتحكى الرواية قصة رجل عجوز من كوبا يُدعى «ثانتياجو» كان يعمل فى مهنة الصيد وظل لمدة ٨٤ يومًا لم يَصطد فيها سمكة واحدة، وفى اليوم الـ٨٥ استطاع أن يعثر على سمكة ضخمة، إلا أنه ظل لمدة ثلاثة أيام يحاول أن يتمكن منها دون جدوى، وفى النهاية اصطادها ووضعها على ظهر المركب، إلا أن الدماء التى كانت تنزف من السمكة جعلت سمك القرش يلتهمها تمامًا. وعاد الصياد ‏ العجوز إلى بلدته وهو يجر هيكل السمكة فقط، وللأسف الشديد لم يصور عمر هذا الفيلم، وكانت أمنيته أن يختتم حياته الفنية بفيلم على هذا المستوى.

 

 

وفى اليوم التالى التقينا، وأخبرنى أن معرض فرانكفورت قد قرر أن يمنح جائزة خاصة له بمناسبة دوره عن فيلم سيدنا إبراهيم وزهور القرآن، وكان سعيدًا أيضًا بأنه سوف يشترك فى الإعلان عن معرض توت عنخ آمون وعودته إلى العالم مرة أخرى، وسوف يُعرض فى الولايات المتحدة الأمريكية لمدة عامين، والذى من شأنه أن يُدِرّ دخلًا كبيرًا إلى مصر، وأعتقد أن سبب تلك الحالة من السعادة التى كان يعيشها عمر الشريف هو الحصول على أغلى ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، وهو حب الناس وحب العالم له ولمصريته واعتزازه بها. كان عمر الشريف شخصية فريدة ذات كاريزما لن تتكرر.

نقلا عن المصرى اليوم