عاطف بشاى

إن المفارقة الصارخة بين نقيضين والمتصلة بالسلوك الاجتماعى والسياسى والنفسى والإنسانى والتى صارت تشكل فى واقعنا المعاش شيوعا مدهشا وانتشارا عجيبا يسيطر عليه أرباب الازدواجية والانقسام وأصدقاء الاتجاه المعاكس أو عقيدة الضد وأنصار النقد الأخرق فقد كنت فيما مضى أتخذ من عنصرى المفارقة وسوء التفاهم سبيلا إلى صياغة كوميديا درامية.. وكنت أزهو من خلالها أنى نجحت فى صياغة اتجاه مميز لما يمكن أن نسميه «الكاريكاتير الدرامى» أو «الدراما الكاريكاتورية» وأنجزت فى هذا الإطار عدة أفلام تلفزيونية عن قصص للساخر الكبير «أحمد رجب» منها «فوزية البرجوازية» و« محاكمة على بابا» و«المجنون» و«صاحب العمارة» و«الوزير جاى».. وفى«الوزير جاى» الذى ناقشت من خلاله آفة البيروقراطية الحكومية.. كان الممثل القدير «عبد السلام محمد» يمثل دور موظف بائس على المعاش.. يتردد على المصلحة الحكومية التى كان يعمل بها للمطالبة بصرف مستحقاته السابقة الضائعة غير المثبتة.. ففوجئ بغياب الموظف المسؤول منذ فترة طويلة وشكاوى المواطنين تتكدس تباعا دون حل وأصبح الموظفون ينتهزون فرصة تواجد «عبد السلام» يوميا.. ويطلبون منه معاوناتهم بصفة استثنائية فى إنجاز طلبات الموظفين شيئا فشىء حل «عبد السلام» مكان الموظف الغائب..

 

وأصبح ينجز مهامهم.. دون أن يدرى أنه محال إلى المعاش وأصبح يوقع على الأوراق والملفات المختلفة.. وصارت تلك المفارقة العبثية المشحونة بالضحك والسخرية موضوعا لتصاعد الأحداث وإقامة الصراع الدرامى فعندما أراد «عبد السلام» أن ينتهز الفرصة الذهبية بالصلاحيات التى حصل عليها ومنها حق التوقيع على الشكاوى والقرارات الإدارية.. وقرر أن يوقع على الأوراق التى تكفل له تحصيل المستحقات المالية الخاصة به صدم أن هذا المطلب لابد أن يوقع عليه مدير المصلحة بنفسه.. وكان عليه أن يخوض سلسلة جديدة من الإجراءات البيروقراطية حتى مات قبل أن يبلغ هدفه.. المهم أنى اكتشفت بتعاقب السنوات، وأن المفارقة الصارخة التى يبتدعها خيال مؤلفى الدراما الكوميدية – وأنا أحدهم - تعانى من مأزق كبير يتصل بتفوق الواقع المعاش الذى يزخر بالمفارقات الهائلة التى لا تخطر على بال هؤلاء المؤلفين وكتاب السيناريو والحوار.

 

تذكرت ذلك وأنا أتابع – خبر تصدر جريدتنا الغراء «المصرى اليوم» منذ عدة أيام بإعلان الكاتب الأديب بإعلانه الانسحاب المفاجئ من مؤسسة «تكوين» الوليدة – على غرار انسحاب نادى الزمالك المفاجئ من خوض مباراته الكروية فى الدورى الممتاز مع النادى الأهلى – مقدما استقالته من مجلس إدارتها معلنا – فى إباء وترفع وشموخ رفض المشاركة فى أى أنشطة أو فاعليات ترتبط بها وذلك للتفرع التام للكتابة الإبداعية فهى فقط التى تدوم وربما تثمر ثمارا بديعية فى الواقع المعاصر الذى بلغ حدا مريعا من التردى ويؤكد أن قراره هذا بالاستقالة لم يكن وليد لحظة متسرعة ولكنه أتى بعد طول معاناة نفسية وتفكير عميق وحصيف دون أن يصرح بسبب هذه المعاناة بينما كان يتزعم بحماس بالغ ونشاط متقد.. وعزيمة خلاقة للمناقشات والمناظرات والندوات والمواجهات الجدلية الأيديولوجية التنويرية ذات الطابع النهضوى الطليعى الهيجلى (نسبة إلى الفيلسوف العظيم «هيجل» التى لا يقوى على طرحها وتأويلاتها وتشابكاتها المعقدة والألمعية، واستخلاص الأهداف المرجوة من المقدمات المنطقية.. والنتائج المبهرة من الأطروحات الملغزة.. إلا «النخبويون» و«الصفوة» و«التقدميون» من أمثاله فى الصالات المغلقة بعيدا عن تلصص أعين العوام.. ويا حبذا لو طرحت الأسئلة والأجوبة الشائكة الطابع مثل: هل هناك الآن من هو أقدر فكرا وتنويرا وثقافة ووعيا حضاريا معاصرا من «د.طه حسين» بين الحضور.. ويا حبذا لو تم الاستفتاء على ذلك الأمر الجوهرى الذى سوف يساهم مساهمة عبقرية فى رسم ملامح دستور عظيم لمؤسساتنا الفكرية التى تهدف إلى مجابهة الأصوليين الظلاميين الذين يتسمون بانشطار حضارى يتفق ونظرية المؤامرة التى تتحدى الآليات المنبعجة.

 

بناء على ما سبق أثناء نظر الدعوة للمطالبة بإغلاق مركز «تكوين» وسحب ترخيصه.. كانت المفاجأة المدوية اكتشاف أنه لا توجد مؤسسة مقيدة بالوحدة المركزية للجمعيات والعمل الأهلى بهذا الاسم.. وبالبحث عن المنظومة الإلكترونية للجمعيات عن مؤسسة «تكوين» لم يتبين خلال البحث وجود مؤسسة بهذا الاسم.. ومن ثم فإن استقالة «د. زيدان» هى استقالة وهمية لا وجود لها!!

 

إنه العبث الرهيب الذى لا تضاهيه مسرحيات اللا معقول فى عصر المؤلفين المسرحيين الأفذاذ «يونسكو» و«صموئيل بيكت».. و«آداموف».

نقلا عن المصرى اليوم