نيفين مسعد
وقفتُ في واحدة من الصيدليات الشهيرة أبحث عن سائل للاستحمام يخلو من المواد الكيماوية التزامًا بأوامر الطبيب فوجدتُ من السوائل أشكالًا وألوانًا. تحوّلت الصيدليات إلى محلات لبيع مستحضرات التجميل والكريمات والعطور وطلاء الأظافر وأحيانًا لعب الأطفال مع القليل القليل من الأدوية من باب الالتزام بالغرض من الترخيص التجاري للـ"صيدلية"، فالمكسب لا يُقارَن في الحالتين. عند الركن المخصّص لمستلزمات الحمّام من شامبوهات وخلافه لفت نظري أحد سوائل الاستحمام من إنتاج شركة معروفة جدًا مكتوب عليه " الكركديه'>رومانسية الكركديه" فكتمتُ ابتسامة تسلَلَت إلى وجهي، فأنا واحدة من عشّاق الكركديه البارد على وجه الخصوص لأنه يناسب الذين يعانون مثل حالاتي من الضغط المنخفض، وأعرف عن الكركديه أنه مشروب لذيذ ومرطّب وصحّي ومهدّئ للأعصاب، لكنها المرّة الأولى التي أعرف فيها أن الكركديه يتميّز بالرومانسية. تقدّمت خطوة للأمام في الطابور المصطّف أمام خزينة الدفع، وتقدّمت أفكاري معي. الكركديه والتمر هندي والخرّوب من المشروبات التي يحبها المصريون، فهل الكركديه هو وحده الرومانسي أم أن التمر هندي والخرّوب أيضًا يتمتعان بالرومانسية؟ ولحين نعثر على إجابة هذا السؤال العويص من الشركة المصّنعة لسائل الاستحمام لا بأس من أن نعرف كيف يعبّر الكركديه عن رومانسيته لمحبيه؟ بدا الأمر كله على بعضه غريبًا بالنسبة لي خاصةً أن لون الكركديه الأحمر ليس من بين الألوان التي تقترن بالرومانسية، وعلى سبيل المثال فإن الأغنية الأشهر للمطرب الكبير كارم محمود "عنّابي يا عنّابي يا خدود الحليوة" يصعب وصفها بالرومانسية رغم كلماتها اللطيفة. المهم في الموضوع أنني قبل أن أصل إلى الخزينة كنتُ قد اتخذتُ قرارًا بشراء عبّوة من سائل الاستحمام إياه رغم ما فيه من مواد كيماوية، فعلى أي حال لم يكن شراؤه لغرض الاستعمال لكن لأقرأ مكوّناته بتمهّل وأعرف ما هي حكاية الرومانسية بالضبط وأي المكوّنات الداخلة في تركيبة سائل الاستحمام هو المسؤول عن إضفاء الرومانسية عليه.
• • •
مع الكركديه لي قصة طريفة، كنتُ في محطة القطار في باريس مع مجموعة كبيرة من الباحثين الفرنسيين والمصريين في طريقنا إلى مدينة ليون حيث كنّا نشارك في الندوة المصرية-الفرنسية التي كانت تنعقد خلال فترة التسعينيات بشكلٍ منتظم: مرة في مصر وأخرى في فرنسا. وفي انتظار قدوم القطار رحت أتمّشّى في المحطة وأتصفّح المجلات في الأكشاك المنتشرة هنا وهناك، وعندما عدتُ إلى المجموعة وجدتُ الزملاء يتناولون بعض المشروبات المرطّبة كما كانت رائحة القهوة الفرنسية النفَاذة تسري في المكان، وآه من مذاق القهوة الفرنسية اللذيذ. لفت نظري أن أحد الزملاء الفرنسيين كان يتناول مشروبًا مثّلجًا أحمر اللون، فبدون أي تفكير ابتسمتُ له ابتسامة خفيفة وقلت له: ده كركديه؟ فإذا بي أسمع قهقهته العالية التي سرعان ما انتشرت بين أعضاء المجموعة كلها. لم أفهم بالضبط سبب الضحك فالجالية العربية في فرنسا كبيرة جدًا وهي تأتي إلى عاصمة النور ومدنها المختلفة مُحمّلة بأفكارها وتقاليدها وأكلاتها ومشروباتها أيضًا، فما الغريب في ذلك؟. أنا نفسي عندما هاجرَت ابنتي إلى كندا عرضتُ عليها في أول زيارة أن أحمل لها ربع كيلو كركديه من عند العطّار لأنها تحبّه مثلي، لولا أنها حذرّتني بشدّة من ذلك لأنه ممنوع إدخال أي نباتات إلى كندا. قال زميل مصري: كركديه يا نيڤين.. عنّاب في فرنسا؟؟ واستمّر في وصلة الضحك. عرفتُ لاحقًا أن المشروب كان نوعًا شهيرًا من النبيذ الفرنسي الأحمر، لكن هذا ما طاف بذهني لأول وهلة، وربما يعود ذلك لأن الواحد منّا عادةً ما يفكّر في ما يحّب. في المرّات التالية التي انعقدَت فيها الندوة المصرية-الفرنسية لم يكن الزملاء يفوتون الفرصة لتذكيري بواقعة العنّاب ويبتسمون، ولم أكن أزعل.
• • •
عدت إلى البيت وتوّكلتُ على الله. أمسكتُ بسائل الاستحمام الرومانسي ورحت أقرأ مكونّاته بتمهّل، وكان من بين تلك المكوّنات: مستخلص زهرة روزا جاليسا، وزيت زهرة تلمبيوم سيسيوسوم، وزيت سيمبوبوجون مارتيني، مع زيت الأرز الحلو وخلاصة أوراق النعناع ومستخلص زهرة الياسمين. تذكّرت وأنا أقرأ أسماء بعض هذه المكوّنات العجيبة مشهدًا طريفًا من أحد أفلامي القديمة المحبّبة هو فيلم "علّموني الحب"، وذلك عندما كان عبد السلام النابلسي أو الأستاذ غراب -الذي كان يعتبر نفسه أحد العلماء الجهابذة في موضوع العصافير- يشرح لفوزية التي كانت تقوم بدورها الفنانة كاريمان نوع فصيلة العصافير التي أهداها لبطلة الفيلم نوال أو الفنانة إيمان، ويقول بمنتهى الثقة وخفّة الظل والأي كلام أيضًا إن هذه العصافير تُسمّى بيكتوريدس موسيكيدس وإن فصيلتها هي بوشيجار صحصاح كراميلا هندي! فإن كنت قد فهمتُ حرفًا واحدًا من كلام عبد السلام النابلسي في الفيلم أكون قد فهمتُ بالمثل مكوّنات سائل الاستحمام إياه.. قال تلمبيوم سيسيوسوم قال. أما ألطف مفاجأة فهي أنني اكتشفتُ أنه ولا ورقة واحدة من نبات الكركديه تدخل في تصنيع هذا السائل، وبالتالي يكون السؤال هو ما علاقة السائل بالكركديه؟ ولماذا لم يفكّر مصنعوه في تشبيهه بنعومة الحرير مثلًا كما هو شائع في الكثير من المستحضرات المماثلة؟ ولو فعلوا لما استطاع أحد أن يسألهم أين يوجد الحرير بين مكوّنات سائل الاستحمام.
• • •
ما أكثر ما يتّم بيعنا الوهم في إعلانات السلع الاستهلاكية المختلفة ويصنع لنا المعلنون من الفسيخ شربات، ولازلت أذكر إعلانًا تلڤزيونيًا عجيبًا عن كيفية إطالة القامة لمَن تجاوزوا سّن النمّو بعدّة عقود، ولا أستبعد أن يكون هناك بين الذين شاهدوا هذا الإعلان مَن اقتنعوا بأن هذا الأمر ممكن بالفعل وقابل للتحقيق حتى في العقد الخامس من العُمر. وبناءً عليه نحمد الله كثيرًا أن الأمر في حالة سائل الاستحمام إياه اقتصر على وصفه بالرومانسية فقط لا غير.
نقلا عن الشروق