محمد يونس
رغم أنني في طفولتي كنت متفوقا عن أقراني بدرجة واضحة..و في شبابي  كنت  مثقفا متقدما فكريا و علميا و زينة الشباب .. و في سنين عطائي الوظيفي أمتلكت أدوات فنية و إدارية لا يمتلكها الكثيرون ..

 إلا أنني في كهولتي خيبت خيبة ملحوظه ..فالعالم بداية من العقود الأخيرة للقرن الماضي كان يتغير بسرعة لا يستطيع ملاحقتها كهل مثلي ...

 أصبح هناك كومبيوتر و لاب توب و تليفون محمول و تلفزيون ديجيتال  سمارت ..و أصبح في قدرة الأطفال أن يقوموا بأعمال أعجز عن فعلها .. كطلب تاكسي أو شراء بضائع و مأكولات بالتليفون .. أو إستخدام الفيديو كونفرانس للمحادثات .. أو التعامل المالي و تبادل الأرصدة  دون الذهاب للبنك.. أو دفع الفواتير و عمل الترخيصات إلكترونيا .. و اللي زاد و عاد كتابة مقالات بإسلوب طه حسين أو العقاد بواسطة برامج الذكاء الصناعي

الفرارجية الخالة أم محمود أو بتاعة الخضار أو الفكهاني و الجزار اللي بيفكوا الخط بصعوبة .. أصبحوا بيبيعوا و يشتروا بالتليفون ..و أنا أنتظر حتي يأتي أولوالعلم ليحققوا لي المعجزات الإلكترونية .. التي تعتبر بالنسبة لي طلسمات ..حتي عندما أركب السيارات الحديثة بجوار أحد المعاصرين .. أندهش إن العربة  تتحدث مع السائق .. و تقوله عندك فاردة نايمة ورا يمين ..أو ميعاد الصيانة حل .. أو وراك حاجز حتصدمه خلي بالك  ..و تدله علي الطريق إمشي علي طول بعد ميت متر حود شمال .. إطلع الكوبرى .. خليك يمين .. المكان اللي إنت رايحه أهوه بعد عشرة متر  

حول عام 2010 ..تعرفت علي النت .. و الفيس بوك .. عن طريق الأبناء الذين نقلوا خبرتهم لامهم .. و هي بالتالي .. أصرت علي أن تجعلني أتعلم رغم بلوغي السبعين كيف أتجول في هذا العالم السحرى الجذاب .

أصبح لي .. صفحتي الخاصة .. و عدد محدود من الاصدقاء ..كنت أتبادل الحديث مع بعضهم ..و أقرا ما يصلني من البوستات التي  يختارها لي الفيس بوك .

كنت أكتب مشاركاتي علي الورق كما تعودت .. ثم تقوم المهندسة فاتن بنسخها و إرسالها ..بين عجبي و إعجابي .
في نفس الوقت علمني عمرو كيف  ألعب بوكر علي الكومبيوتر .. في البداية تعثرت .. ثم أتقنت اللعب فكنت أجلس لساعات أكسب و أخسر .. و أفرح و أحزن كما لو كانت أموال حقيقية .. حتي كونت ثروة فبدأت  أشارك علي الترابيزات الكبيرة .. أخذت إدارة اللعبة تتلاعب بي و بأعصابي بحيث ساءت حالتي إلي درجة الإدمان .

 أمام معبد حورس بإدفو .. إنتهت سجائرى .. فطلبت  علبتين (روثمان) من الكشك اللي علي اليمين و إنت داخل .. ولانها  لم تكن متوفرة إشتريت  بدل منهما (كنت ) كان عمرو و مروان  معي صبيان يقتربان من سن المراهقة ..كثيرا التساؤل عما يدور حولهما  ..فسأل أحدهما هي السجاير حلوة .. أحسست أنني أقودهما للتدخين .. فقلت لا .. دى عادة (وسخة ).. طيب بتدخن لية .. فرددت لم أعد أدخن من الأن .. و من يومها لم أدخن لمدة 30 سنة
 هذا نفسه ما فعلته عندما أحسست أن موقع البوكر قد إمتلكني  أغلقت حسابي مع اللعبة ..و لم أعد بعد ذلك لمزاولة أى لعبة إلكترونية ( حتي الطاولة و الشطرنج ) .. توقيا للإدمان .. و ضياع الجهد .. و الوقت فيما لا يفيد.. و لكنني لم أهجر الكومبيوتر  .

بمرور الوقت .. تعلمت كيف أكتب بنفسي .. و كيف انشر  مقالاتي .. و كيف أرد علي التعليقات .. التي  ترد إلي صفحتي ..من المتابعين  
ومع عدم إنشغالي بالبوكر أو الألعاب (عدا السوديكو علي التليفون ) قررت أن أزيد من فاعلياتي علي الفيس بوك فأكتب يوميا علي صفحتي بوستين .. أحدهما دراسة طويلة .. و الأخر تعليق علي حدث أو خبر أثق في دقته ..و صدقة .

فأصبح لصفحتي 5000 من الأصدقاء و حوالي 12000 من المتابعين..و مناقشات يومية  ساخنة تتجاوز المائة .
بعد عشرسنوات من كتابة بوستات مجموعها يتعدى الأربعة الاف .. و جدت أنني مثل سيزيف .. أتعب في كتابة البوست .. يبقي لساعات .يتداول .ومع نهاية اليوم يصبح بضاعة بايتة ..و أبدأ في كتابة جديدة .. دون أى مردود ..أو نتيجة .. كما لو كنت أنفخ في قربة مقطوعة أو أنزح المحيط ..

 بعد مدة تبينت أن أقل القليل من مستخدمي هذه الوسيلة يبذل الجهد أو يتوخي إلتزام الدقة ..و الموضوعية .. وأن جزء لا يستهان به من المادة المطروحة .. إما مفبركة .. أو متعجلة .. أو موجهه ...بواسطة ما يسمية البعض اللجان الإلكترونية التي تدفع تكاليفها إما  الحكومة أو السلفين أو الأخوان المسلمين..أو أحد المستفيدين ..و أنها أصبحت مهنة تدر أموال كثيرة ..

 هذه اللجان بدأت في التسلل إلي الصفحة .. تفتعل  معارك مع الأصدقاء .. و معي شخصيا...  فلقد كانت هناك دائما لديهم خطط لمهاجمة الصفحات المؤثرة و التي عليها إقبال ..و التشكيك فيما تطرح .. و عمل شكاوى لمن يدير المنظومة ... بحيث يتحولون لرقيب مخفي فييأس صاحبها أو يتحول لبوق من أبواقهم .يردد أقوالهم .و العياذ بالله

لقد إستبدلت الحكومة و المعارضة البث بواسطة الجرائد المطبوعة .. و الإذاعة و باقي وسائل الإعلام بعد أن كشفها و هجرها الناس ..إلي السيطرة علي وسائط التواصل الإلكترونية .. توجهها و تقودها و تدفعنا دفعا لتبني وجهات نظرها بالإلحاح

صفحتي شهدت هذا الصراع و تحولت إلي ميدان عراك و وسيط دعائي يستخدمه المشاركون ( عمدا أو بدون قصد ) لتوصيل وجهات نظرهم و تنفيذ تعليمات قيادة الحملة ..  متكتبش (صلعم ) إكتب ( صلي الله علية و سلم ) .. متقولش عمرو بن العاص .. إتكلم بإحترام علي أحد الصحابة .. حتي أن أحدهم أنبني لأنني كتبت اللة ..و لم أكتب الله.  ..  فين مراجعك علي الكلام دة ....لا دى مراجع مشبوهه  لا يعتد بها ..  ثم إتهامات إذا ذكرت إسم عالم أو فيلسوف بأنني متفرنج .. م عندنا علماء و فلاسفة .. مبتتكلمش عليهم ليه

 في إبريل 2021  إثر حوار غير منطقي مع دجمة دينية تشبة الأستاذ يوسف سعد  أو عماد شطا ..قررت التوقف  عن وجع الدماغ ..و تعاطي هذه الوسيلة أو المشاركة بعد تلوثها ..كما توقفت عن التدخين أو لعب البوكر أو قراءة صحف الحكومة .. أو مشاهدة تلفزيونها .و أفلامها  . و أغلقت  صفحتي.. دون رجوع .

 و إسترحت .. من المناهدة .. و قلة الأدب أحيانا ..و أصبح عندى وقت أكتب مقالات في الحوار المتمدن ( المحترم ) ..و أقباط متحدون .. ورغم أن العديد من الأصدقاء وجهوا لي اللوم لتركي الفيس بوك إلا أنني صمدت سنة  كاملة

 .. حتي كان حديثا طويلا مع الدكتور أنور نصير..شعرت بعده أنني أنسحب من معركة .. قوات الحلفاء فيها قليلة و تحتاج للدعم
 فأنشأت صفحة جديدة في يونيو2022لازالت تعمل خلال السنتين الماضيتين في سلام .. يقصدها عدد من المثقفين الذين يفهمون لغتي ..و أفهم أحاديثهم .. حتي جرى غزوها مؤخرا .لنعود لنقطة الصفر ..

فلقد وجهت بهجوم منظم من لجان لا أعرف من يحركها  ....بحجة أنني ذكرت إسم صديق مفكر و عالم أكن له الإحترام في مقال من مقالاتي .. وهم يكرهونه لانه لدية منطق لا يستطيعون الردعلية إلا بسفالات الكلام .

ثم  بدأوا في التضييق علي الصفحة حتي أتبني خطاباتهم أو أغلقها . .. فلم أستجب  بل كتبت مقالا عن الدكتور سيد القمني  .. أعلن فيه أنني اقدر جهده .. و اللي مش عاجبة الباب يفوت  جمل .

إقتربت من الخامسة و الثمانين  ..و لم تعد لي مطامع أو أهداف أحاول تحقيقها في مجتمع غير موات .. لا أرغب في ثورة أو ثروة ..أو أنتقل لاعيش في بحبوحة المدن المستجدة ..و لا أهتم بمستقبل أبعد من أسابيع أو أيام .

..الابناء و الأحفاد .. عليهم تعلم كيف يتكيفون مع أوضاع مجتمعاتهم و يطورونها  .. هذه لم تعد وظيفتي
 و لا يهمني كثيرا .. أن البلد تتغير  للعنف الراسمالي و سيطرة طبقة من المليارديرات علي الناس .. و لن يلفت نظرى تلك المؤتمرات أوالإحتفالات التي  تقيمها و ترعاها الدولة للدعاية لإنجازاتها .. أو ماتشات كرة القدم المسيطر عليها بواسطة المتحدة التي لا تنتهي مشاكلها..أو الضرائب المتصاعدة غير العادلة علي كل مكالمة تليفون أو شربة ماء أو سيجارة تدخن .. و الغلاء الفاحش الذى خفض البعض عدة درجات علي السلم الطبقي فمعي ما يكفي لان أبقي علي وش المية .لو خفضت إحتياجاتي لتصبح الضرورية منها

و أعتقد أنه من الصعب أن يتم خداعي سواء في السياسة الداخلية او الخارجية رغم الضباب الذى يحيطهما .في بلد الإعلام فيها موجه ... فلقد أصبحت علي يقين أن هذا العالم مصنوع شديد الزيف .. تم تصميمة من أجل عدد .. قليل من الملياريرات يسعون إلي صبغنا بالوانهم و ينتظرون منا أن نكون تابعين بإرادتنا نرددة كلماتهم  

لقد تقدم هذا المكان إلكترونيا ..و لكنه فسد خلال 11 سنة لا تزيد و أصبح ميدان قتال و صراع حتي أنه لم يعد هناك  موقع لقدم عجوز.. يقاوم تاثير أدوات الجيل الرابع للحروب .. و يزعق علي صفحة مجهولة بين عشرات الملايين من الصفحات المشابهه .. دون نتيجة .. و كلما وجد نفسة يتورط في مشاكل اللعبة التي لا تعنية يقول ..يا ريتك يا باشمهندسة م دخلتيني في هذا المكان الشرس ... يا ريتني ما قعدت أمام الكومبيوتر ..و يفكر كيف يتخلص من إدمان البوستات ..و المقالات و الإشاعات ..و الصراع مع اللي يسوى و اللي م يسواش .
محمد يونس