كمال زاخر
الثلاثاء 2 يوليو 2024
                                          حيث تكون الكنيسة،
                                         يكون روح الله؛
                                         وحيث يكون روح الله،
                                         تكون الكنيسة، ويكون ملء   
                                         النعمة.
                                         القديس إيرينيئوس اسقف
                                         مدينة ليون ـ فرنسا
                                         (القرن الثانى الميلادى)

يعكف صديقى السكندرى د. جرجس كامل يوسف على ترجمة جديدة لكتاب "كنيسة الروح القدس" للأب نيقولا آفانا سييف من الكنيسة الارثوذكسية الروسية، وقد أرسل لى مقتطف مما ورد بهذا الكتاب فى تعريف الكنيسة:

"إن اسمَ الكنيسةِ ذاته، الذي نجدُه منذ أقدمِ العصورِ لوجودها، يشيرُ ضمنًا إلى فكرةِ وجودِ جماعةٍ منظمةٍ من الناسِ ليسوا رعاعًا أو حشدًا يتحدى أيَ نظامٍ أو هيكل. لم يكُن من الممكن أن يقبلَ العقلُ المسيحيُ مصطلحَ "كنيسة" لو كانت الحياة الكنسية للكنيسة الأولى تسترشدُ بالفوضى وغياب أية سلطة. لقد تم تحديدُ محتوياتِ هذا المصطلحِ بدقةٍ تامة، لدرجةِ استبعادِ أي غموضٍ فيما يتعلقُ بمعناه.

الكنيسة ekklêsia هي كنيسة لأنها جماعة شعبِ اللهِ في المسيح، وليست جماعة عشوائية أو تجمعَ  مسيحيين اجتمعوا بالصدفة. ما يظهرُ الكنيسة كاجتماعٍ في المسيحِ هو الاجتماعُ الإفخارستي، لأن المسيحَ حاضرٌ فيه. الوصية الأخيرة التي أعطاها المسيحُ للرسلِ قبلَ آلامه – "اصنعوا هذا لذكري" (1 كو 11: 24) - لا يمكنُ أن تشيرَ إلى تجمعاتٍ عشوائية لأتباعه، بل إلى شعبِ اللهِ الجديدِ الذي صنعَ معه العهدَ الجديد بدمِ ابنه."

وعندما عدت لمقدمة الكتاب ـ فى ترجمة سابقة ـ وجدت الأب نيقولا يؤكد فى تقديمه
              "أن اساس الكنيسة الوحيد هو الروح القدس، فالكنيسة جسم                     
               مواهبي، لا لأنها أخذت يوماً ما عطايا الروح القدس وحفظتها فى  
               احشائها كما يُحفظ الكنز المخبَّأ، ولا لأن الكثيرين يأخذون منها
               موهبة، بل لأنها تحيا وتفعل بالروح، ولأنها مكان عمله. فلا حياة
               في الكنيسة ولا عمل داخلها ولا كهنوت الاَّ بالروح، ومن دونه لا
               توجد كنيسة. فقد أنشأها الرب فى العشاء السري ثم جعلها حقيقة
               لما أرسل روحه بمجد على تلاميذه فى العنصرة، ومنذ ذلك الحين            
               يسكن الروح فى الكنيسة وتعيش الكنيسة بالروح. فـ (كنيسة الله
               في المسيح) هى كنيسة الروح القدس، كما في عصر الآباء كذلك
               اليوم".

ويختتم الأب نيقولا مقدمته بفقرة قد تكون صادمة لكنها صادقة:
 "إننا نعيش فى عصر صعب إلى أبعد حد، وإذا اراد أحد أن يطلق أى اتهام لحياتنا الكنسية فإنه لن يستطيع أن يبرئ نفسه، فكلنا مسؤولون. نحن نعلم أن ثمة عصوراً كعصرنا كانت فيه الكنيسة مشوشة، وكانت حروب وانشقاقات واتهامات متبادلة ووشايات وضغوطات، ولكن ثمة فارقاً بين ما كان حاصلاً وبين ما يحصل اليوم. فالحروب العقائدية كانت دائماً اساس الإضطرابات التى يذكرها التاريخ، بينما فى عصرنا تنتشر الأهواء البشرية فى وضح النهار، ودون أن تخجل أو تتقنع بالنزاعات العقائدية. إن حياتنا الكنسية تسير فى طريق مسدود.

ويواصل الكاتب موضحاً
"ثمة مبادئ عرفناها منذ أمد بعيد تُنتهك اليوم ولا تقود إلا للعجز؛ فنحن ننظر للكنيسة كأنها منظمة خاضعة للأنظمة البشرية وخادمة للغايات البشرية، لأن الإرادة البشرية هى التى تسيطر عليها بالدرجة الأولى. وهذه الإرادة ـ الغريبة عنها ـ تحاول أن تجعل من كنيسة الله وسيلة للوصول إلى غايتها الخاصة.
ويستطرد الكاتب

أن المؤرخ، خاصة إذا كان مؤرخاً للكنيسة، لا يحيا خارج الزمن. ويجب أن يخدم عمله الكنيسة، إذا كان يعتبره مهمة كنسية، أفلا يجب عليه إذن أن يتذكر فى مؤلفاته أن للكنيسة مبادئ خاصة:

• أنها ليست منظمة بشرية بل مقام إلهى،
• وأن الإرادة الإلهية لا الإرادة البشرية هى المؤثرة فيها بواسطة الروح القدس؛
• وأنها تحيا وتعمل بمواهب الروح التى يوزعها الله بغير حساب،
• وأننا نحن "مواطنون فى السماء ومنها ننتظر مخلصنا الرب يسوع المسيح"  (في3 : 20).

أفلا يجب أن نتذكر ، في رتابة حياتنا اليومية، أنه "حيث تكون الكنيسة يكون روح الله؛ وحيث يكون روح الله تكون الكنيسة، ويكون ملء النعمة."؛ وأن الكنيسة هى كنيسة الروح القدس، وأنها رغم وجودها فى الزمن تنتمي إلى "بداية الأيام الأخيرة".

ولعل القارئ يراجع كلمة القديس بطرس فى يوم الخمسين واستعارته لنبوة يوئيل النبى (اعمال الرسل 2 : 14 ـ 21).

دعونا نقترب من كنائس افريقيا، وتحديداً كنيسة شمال افريقيا من ليبيا الى المغرب وموريتانيا، ومن أهم ما يرتبط بها أنها انجبت قديسين عظماء ولاهوتيين نبغاء أمثال ترتليانوس وكبريانوس واوغسطينوس.

وفى عام 411 م انعقد مجمع قرطاجنة (حالياً مدينة قرطاج وتقع فى الشمال الشرقى لتونس) وحضره نحو 547 اسقفاً (!!)

وقد سقطت قرطاجة فى يد العرب عام 696م.، الذين اجتاحوا اسبانيا عام 710م.

وقد طرح كتاب "اسباب زوال الكنيسة فى افريقيا الشمالية بعد الفتح العربى" تأليف الأب بولس دى سيزييه اليسوعي، تعريب الأب كميل حشيمة اليسوعى، وهو يردها إلى صراع المملكة الفاندالية فى قرطاج (وكانوا من اتباع بدعة اريوس) مع الكنيسة الجامعة، وجحد الكثيرون الإيمان، حتى زال عهد الفاندال بعد مضى نحو قرن (533م)، ولم يمض قرن أخر حتى احتل العرب شمال افريقيا بدءاً من ليبيا فى القرن السابع (643م.) ثم سقطت قرطاجنة  (696مز) ليتم اجتياح اسبانيا (710م.).

يستعرض الكاتب عديد من الأسباب والصراعات بين القوى الدولية آنذاك ثم يقول:
"يضاف الى لاسباب السابقة أن المسيحيين فى شمال افريقيا كانوا ميالين إلى المشاحنات والتحزبات. فالقرن السادس كان مليئاً بالنزاعات الدينية الحادة، وقام اصحاب البدع بشق الصفوف، وراح الافارقة ـ فى شمال افريقيا ـ وهم التواقون أبداً إلى الثورة على السلطة المركزية يهاجمون الامبراطور ويتهمونه بالهرطقة."

فكان التفكك والصراع هو افضل تمهيد للاجتياح العربى.
يتساءل الكاتب هل كان للبنية الكنسية دورها فى اضمحلال المسيحية هناك؟،

ويجيب "مما لا شك فيه أن مطالعة الوثائق تظهر أهمية الدور الذى قام به الأساقفة والمكانة التى كانت لهم. فالانطباع السائد فيها هو أن الكنيسة هى الأساقفة ومؤسساتهم، وأن الجماعة هى الأسقف. لذلك كان الاساقفة هم المستهدفون من الفرق المنشقة على الكنيسة وقتها، وقتلوا اعدادا كبيرة من الاساقفة، حتى زوال دولة الفندال (533م.)،

يذكر الكاتب أن تلك الاضطرابات هبطت بالكنيسة إلى أدنى المستويات، ولما استقر العرب فى شمال افريقيا كانت الايبارشيات لا تتعدى الأربعين (من اصل اربعمائة)، فهل يعود الخلل إلى تضخم التنظيم الأسقفى وطغيان التراتبية فيه، بحيث أنه لما زال زالت معه حيوية الكنيسة  فى شمال افريقيا، وبقيت الجماعات المسيحية مستفردة لا تقوى على تأمين تضامن لابد منه؟. يواصل الكاتب "ومع انعدام الاساقفة ما لبثت الكنيسة أن تفككت أوصالها وتقلص ظلها حتى لم يعد لها فى البلاد مع بروز القرن الحادى عشر سوى أساقفة ثلاثة.!!

ومع ذلك ـ بحسب الكاتب ـ تستمر المشاحنات بين الفرق المسيحية المتناحرة، ويبدو، كما يرصد الكاتب، أن كل تلك المنازعات قد امتصت آخر قوى الفكر والبحث فى كنيسة افريقيا الشمالية، ولم يعد لأمثال ترتليانس وقبريانس واوغسطينس من وجود، وقد هاجر المثقفون إلى صقلية وإيطاليا.!!

ويختتم الكاتب طرحه الذى تناول اسباب اضمحلال كنيسة شمال افريقيا بقوله "ان انكفاء الجماعات المسيحية ـ على ذاتها وعزلتها ـ لم يكن على الصعيد العددى بقدر ما كان على الصعيد الفكرى والثقافى. فقد باتت تلك الجماعات غير قادرة على أن تجد فى ذاتها المقومات الروحية والمادية الكفيلة بتأمين بقائها على قيد الحياة، كما أنها انعزلت انعزالاً تاماً عن المصادر الاوروبية والمشرقية، واستطاع الموحدون المتزمتون القضاء عليها بلا شديد عناء، فماتت بسبب ضعفها الناتج عن جوعها.

عبر كتابين احسبهما مهمين فى الاشكالية التى نتناولها، وهى محاولة الاجابة على السؤال المزعج هل يمكن لكنيسة أن تنتحر؟.

فالأول يحلل الجانب اللاهوتى بشكل من الأشكال؛ ويشرح دور الروح القدس فى تأسيس وبنيان الكنيسة برؤية ارثوذكسية، ويضبط تعريف الكنيسة وخطورة اعتبارها مؤسسة خاضعة للأنظمة البشرية وخادمة للغايات البشرية، لأن ذلك ينتهى بنا إلى كنيسة مشوشة، تفترسها حروب وانشقاقات واتهامات متبادلة ووشايات وضغوطات، بين الفرقاء داخلها.

والثانى يحاول أن يجمع، عبر جهد شاق، الأسباب التى انتهت بكنيسة قدمت للمسيحية قديسين عظماء ولاهوتيين نبغاء أمثال ترتليانوس وكبريانوس واوغسطينوس، اثروا الفكر المسيحى بشكل لا يمكن اغفاله، إلى الاندثار.

وأهمية هذا الكتاب أنه بقلم احد اقطاب الرهبنة اليسوعية والتابعة للكنيسة الكاثوليكية، عن كنيسة كانت تقع فى نطاق الكنيسة الكاثوليكية، واستطاع أن ينجو من فخاخ الاستقطاب والدفاع عن كنيسته بشكل قبلى، ليغسل يدها من مسئولية هذا الاضمحلال الذى لحق بتلك الكنيسة التاريخية.

دعونا نستكمل فى جزء ثالث ـ وأخير ـ الإفصاح عن المخاطر التى يمكن ان تجرفنا إلى مصير مؤلم. لا نتمناه ولا نسلم به لكنيستنا.