نيفين مسعد
من أشهر كتب المؤلف الفرنسي ستيفان جارنييه كتابه الذي نشره قبل عدة سنوات وحمل عنوان "كيف تعيش مثل قطّك؟"، والكتاب هو عبارة عن حصيلة ملاحظة دقيقة من المؤلّف لسلوك قطّه على مدار سنوات طويلة، ومن هذه الملاحظة خلص جارنييه إلى أن القط يعيش سعيدًا لأنه لا يحمل همّاً ولا يُثقل نفسه بأعباء العمل ولا يتوتّر، ونصحنا بالتالي بأن نقلّد القط ونعيش مثله.
وبطبيعة الحال فإن التعليق الذي قد يتبادر لذهن أي واحد منّا فور قراءته الكتاب هو "ما كانش حدّ غلب"، فمصاعب الحياة قد تفرض علينا خيارات لا نريدها أو تحدّد لنا دروبًا لا نرغب في المشي فيها، هذا أولًا، أما ثانيًا فلماذا نفترض أن القط أكثر سعادة مثلًا من العصفور والعصفور أمامه السماوات المفتوحة يغوص في زرقتها وينعم ببراحها ولا يعاني أبدًا من مشكلة نقص الأوكسوچين، بينما القط فإنه إما هائم على وجهه في الشارع وشتّان هو الفرق بين الأرض والسماء، وإما أنه حبيس قفص أو بيت أو حديقة في أحسن الأحوال. قد يكون العصفور أقصر عمرًا من القط، لكنه يعيش حياته بالطول والعرض، فليتنا كنّا عصافير.
• • •
لكن على أي حال هناك خاصية رائعة تتمتّع بها القطط ويعرفها كل الذين جرّبوا تربيتها أو اقتربوا من أشخاص يربون القطط، وهذه الخاصية هي القدرة العجيبة على الاختفاء والاختباء في أماكن لا يستطيع الوصول إليها العفريت الأزرق، علمًا بأنني لست واثقة من أن الجنّ الأحمر يعاني هو الآخر من عدم استطاعة العثور على القطط إذا ما قرّرت الاختفاء، لكن دعونا نتعامل على مستوى الجنّ الأزرق ونبحث معه لماذا يقرّر القط فجأة أن يختفي؟ يقرّر ذلك من باب الخوف أحيانًا عندما يساق إلى بيت جديد لأول مرة فيقرّر عملًا بالمبدأ الإنجليزي الشهير wait and see أن يختفي عن العيون حتى يعرف مية أصحاب البيت وما إذا كانوا يحبون الحيوانات ويعطفون عليها أم لا، وعندما تأتيه المعلومة التي ينتظرها يخرج من مخبئه ويسيح في البيت على راحته. والقط يختفي أيضًا عن العيون من باب معاقبة أصحابه على أنهم زجروه لأنه أخّل بنظام البيت أو عبث بقماش الأنتريه أو أكل الطعام المعّد خصَيصًا للضيوف.
أما أماكن الاختفاء والاختباء فهي آخر ما يمكن التفكير فيه، فقد يختفي القط مثلًا بين ثمار البطاطس التي نحتفظ بكيلو واحد منها على الأقل في بيوتنا لزوم الشيبسي اللذيذ للأولاد والأحفاد، وقد يختبئ في أحد أحواض الزرع في الحديقة ويختلط لونه بلون الثمار، وقد يتسلّل إلى داخل خزانة الثياب، أو يندّس بين أكوام الكتب والملفّات، أو يتوارى أعلى ستارة من ستائر البيت أو يلتّف بها، وهو قادر على الحفاظ على اختفائه لمدة يوم أو يومين لا أحد يعرف كيف له أن يتحمّل خلالهما الجوع أو العطش، اللهم إلا إذا كان يتسّلل خلسة من مخبئه في جُنح الظلام ليأكل ويشرب ثم يعود.
• • •
هذه الخاصية التي يتميّز بها القط هي التي كنت أحب جدًا أن أنقلها عنه، فمثلي مثل الغالبية الساحقة من النساء المصريات كثيرًا ما هددنا بترك بيوتنا ليعرف باقي أفراد الأسرة قيمتنا ويندمون أشّد الندم على أنهم فرَطوا فينا وأضاعونا. نغضب ونقسم أننا سنختفي في مكان لا تعرف الأسرة له طريق جُرّة، ونحن في الواقع لا نكون على مستوى القَسم ولا على قدّ الحِلفان لأننا لا نعرف بالضبط أين هو هذا المكان الذي لا تقدر الأسرة أن تطولنا فيه. على الأرجح سنذهب إلى بيت الأهل سواء الأبوين أو الإخوة، فإن لم يتسّن ذلك فبيت طنط فلانة مفتوح لاستقبالنا، وفي طفولتي مررت كثيرًا بهذه التجربة، ورأيت عندما كانت سخافات سنّ المراهقة لي ولأخوّي تزيد عن حدّها بينما والدي بحكم طبيعة عمله ينتقل من محافظة لأخرى- كيف كانت أمي ترغي وتزبد وتهدّد بالاختفاء وتنفّذ تهديدها بالفعل.
في البداية كنت أمتلئ رعبًا لمجرد فكرة أن تغيب أمي عن عينّي، لكن فيما بعد لم أعد أخاف لأننا كنّا نصل إلى أمي بمنتهى السهولة بعد عدة ساعات لا أكثر. ولأن أمي كانت يتيمة الأبوين منذ صباها فإننا إما كنّا نجدها في بيت طنط سعاد جارتنا في شارع المنيل التي مات زوجها وكانت تعيش مع ابنتها إيناس أو دُقدُق كما كانوا ينادونها لأنها كانت قليلة الحجم، وإما في الروضة عند طنط حياة أو حيات كما كانت تنطق أمي اسمها وهي امرأة صعيدية لم تنس أبدًا تعطيش الجيم رغم طول إقامتها في القاهرة، وفي أحيان قليلة كنّا نجدها عند خالتي عصمت في حيّ الدقّي لكن بيتها المملوء بالضجيج والزوّار لم يكن يشجّع كثيرًا على الاختفاء .
• • •
آه من الاختفاء ومن متعته التي لا يشعر بها إلا مَن جرّبها. بالطبع ليس الضجر من سخافات الأولاد هو السبب الوحيد للتواري عن العيون فهناك ألف سبب وسبب للاختفاء، وكل الأسباب تدعو للبحث عن خُن أو خلوك أو ساتر بعيدًا عن الملل والإجهاد والإحباط والضغوط التي لها أوّل وليس لها آخر. حلو تعبير ساتر لأنه يتضمّن معنى الحماية وهذا هو بيت القصيد. أن تخرج في فاصل ثم تعود لتُواصل معارك الحياة أمر لذيذ بل لذيذ جدًا ويقوم مقام عشرات الحبوب المهدئة للأعصاب لكن بدون آثار جانبية. إنه.. إنه شئ يجعل الواحد منّا أقرب لحالة القط التي تحدّث عنها الكاتب ستيفان جارنييه، ذلك القط السعيد الحرّ اللامسئول (مؤقتًا) الهادئ المرتاح والبعيد تمامًا عن التوتّر. لكن المعضلة هي كيف يمكن أن تختفي دون أن يعثروا عليك.
ليتنا كنّا نستطيع أن نختفي في سلّة البطاطس أو حتى البصل، أو في فجوة داخل بدروم المنزل أو السندرة، أو وسط أمهات الكتب أو في أي مكان آخر بعيد عن العيون، فوفرة وجودنا وإتاحتنا طول الوقت قد يجعل البعض يتعامل معنا كمعطاة ويُفقدنا بعض قيمتنا لديه وهذا غير مطلوب، فقليل من الاختباء يصلح العلاقات الإنسانية ويصحّحها.
نقلا عن الشروق