عاطف بشاي
«من الشارع إلى كان» ومن «القرية إلى العالمية» هما العنوانان اللذان يلخصان تلك الرحلة المدهشة التى خاضتها فتيات مسرح بانوراما البرشا بتلك القرية الصغيرة بمحافظة المنيا لتحقيق الحلم المستحيل الذى أسفر عن جائزة «العين الذهبية» للفيلم التسجيلى المستقل «رفعت عينى للسما» إخراج الزوجين «ندا رياض» و«أيمن الأمير» فى دورة هذا العام لمهرجان «كان» الدولى بفرنسا.. ويعتبر هذا الفوز تتويجا ساطعا لفوز سابق تم أيضا من خلال نفس المهرجان عام ٢٠٢١ والذى حصلت فيه دميانة نصار بطلة فيلم «ريش» إخراج «عمر الزهيرى» على جائزة أسبوع النقاد.. وجدير بالذكر أن «دميانة» هى أم «هايدى سامح» بطلة فيلم «رفعت عينى للسما» التى أعربت عن غامر سعادتها فى وسائل الإعلام المختلفة لبلوغ ذلك المهرجان العريق.. وتلك الحفاوة التى تم استقبال الفيلم بها فى «كان».
على أن المفارقة المدهشة بين موقف أهالى القرية المتشددين والساخطين والرافضين وغضبهم الجامح لعروض مسرح «البرشا» التى تزينها الفتيات المبدعات فى الشوارع والحارات والأزقة، فقد اعتبروا تلك العروض التى تناهض وتستنكر مذابح الختان وجريمة الزواج المبكر والتحرش والعنف السادى ضد النساء وكراهية الآخر تمثل تحديا سافرا واعتداء باغيا وتجاوزا أخلاقيا ودينيا لموروثات عتيقة بالية ومسلمات طاغية تكرس لسلوكيات ذميمة وعادات قبيحة وممارسات متخلفة.. تمثل ردة حضارية مقيتة وتخلفا اجتماعيا مزريا وإيمانا بغيبيات خرافية تروج للدجل الذى يتدثر بقناعات التكفيريين والظلاميين وتسعى فى عنصرية بغيضة إلى فرض الوصاية والإقصاء والتحريم والتجريم وأردية الحرية والفنون والعلوم، وخاصة أن المنيا تزخر بمجموعات من المتطرفين اللدودين.
أقول إن المفارقة المدهشة تتمثل فيما أوضحت «هايدى» بطلة الفيلم التغيير المفاجئ الذى أصاب أهالى قرية البرشا والقرى المجاورة الذين احتشدوا لاستقبال البنات عضوات بانوراما البرشا بعد عودتهن من كان بالجائزة بالزغاريد والطبول والمزامير والهتافات المرحبة التى تحمل كل معانى الاحتفاء والإشادة والإعجاب البالغ.. وكأنهم يعتذرون نادمين عن إساءاتهم الذميمة السابقة وتطرفهم الذميم، وكأن نداءات التحول الجمعى.. ورسالة التحضر المفاجئ وسحره الذى أشرق فى لحظة مباركة قد انتصر نصرا مؤزرا ذا دلالات وأبعاد وأغوار وإشارات بالغة الأهمية عميقة الأثر تستحق الدراسة والبحث والتحليل، كما تستحق إفساح المجال- ليس فقط - للمفكرين وقادة الرأى والسياسيين والنقاد الفنيين وعلماء الاجتماع وأساتذة علم النفس بدراسة تلك الظاهرة المبشرة.
أولى تلك الدلالات بديهة راسخة لا تحتمل شكا أو نقاشا جدليا هى قدرة الفن العظيمة على تحقيق ثورة وعى مجتمعى يحمل رسائل تنوير يتجاوز محنة فقر الفكر وفكر الفقر وإنارة عقول تراجعت حضاريا وإنسانيا غرقت فى غياهب التخلف والغيبيات والتطرف الدينى المقيت (الذى كثيرا ما تتمخض عنه أحداث دموية مرعبة فى قرى المنيا ونجوعها)، والإيمان العميق بدور الفن الثائر على التقاليد المرعية المغلوطة والثوابت المتدنية.. وكشف عورات المجتمع وعثراته ومثالب شخصيات وجماعات تعيش فى نقوص مزرٍ خارج الزمن.. والحضارة الحديثة.. وتستلهم من عصور سحيقة علومها وقناعاتها ومسلماتها المنحطة دستورا لحياتها بغيضا وغير إنسانى.
الدلالة الثانية البارزة والواضحة فى الاستقبال الفرح للزرافات الشابة البازغة هى ذلك التوحد والتلاحم والتفاعل والتواصل الحميم الحافل بمعانى الإخاء والمساواة والانتصار للهوية المصرية الأصيلة والحياة المدنية التى تعلى من شأن المواطنة فوق الطائفية وينتفى فيها الاضطهاد الدينى والفتنة الطائفية.. إن التنوير الحقيقى يحققه الفن الحقيقى.. وليس تنوير «النخبويين» الذين يصفهم الكاتب الصحفى المرموق «حمدى رزق» فى مقال أخير له مؤكدا أن تجديد الخطاب الدينى ليس بالندوات التثقيفية والمؤتمرات والصالونات المغلقة.. اهبطوا فرادى وجماعات إلى العزب والنجوع والقرى والأحياء الشعبية، بدون هذا الالتحام بالجماهير ستظل مؤتمراتكم وأفكاركم وخطبكم محصورة فى شعب ضيق..
وليس هذا هو التنوير.
نقلا عن المصري اليوم