أحمد الخميسي
كلما حلت ذكرى نكسة 67 هبت علينا العواصف الترابية الإعلامية التي تسعى لكي ترسخ في الضمير المصري الشعور بالهزيمة وبأنه لم يكن ثمت جدوى، ولا فائدة، من المقاومة. هذا ما فعله الخديوي والاعلام الغربي حين شوه ثورة أحمد عرابي وقدمها للوعي العام بصفتها مجرد " هوجة" وصور آمال الحركة الوطنية باعتبارها " عصيان"، مثل كل عصيان، لا يسفر عن شيء. والقصد من وراء ذلك غرز القناعة في الوعي واللاوعي بأن الشعب المصري ضعيف ليس من قدراته الثورة ولا الانتفاض ولا النصر.

ويصمم أولئك على ألا يضعوا النكسة في سياقها التاريخي، باعتبارها هزيمة في سير القتال. وقد حدث أن غزا نابليون بونابرت روسيا بسبعمائة ألف جندي عام 1812، وتوغل داخل روسيا حتى غرب موسكو، واستمر الجيش الروسي في الانسحاب أمام الغزو ثلاثة أشهر كاملة، وكان من الممكن أن يتوقف البعض عند ذلك الانسحاب ويصب على تلك اللحظة كل صفات الهزيمة، وكان من الممكن للبعض أن يرى ذلك التراجع في سياق التأهب للهجوم. وقد بقيت الحقيقة وحدها وهي أن الهزيمة الحقيقية على حد قول أحمد السيد النجار هي استسلام البلد المهزوم عسكريا لأهداف الطرف المنتصر وهو ما لم يتحقق في حالة مصر، وما إن أعلن عبد الناصر عن تنحيه في 9 يونيو حتى خرج الملايين يعلنون تأييدهم له، وسرعان ما بدأت حرب الاستنزاف التي أعدت الجيش لحرب أكتوبر،

ورفع عبد الناصر في قمة الخرطوم شعاره : لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، وواصل بناء الجيش، بل والتنمية، والتشبث بالعداء للاستعمار وتحرير فلسطين. لكن العواصف الترابية لا تريد لنا أن نستخلص من كل ذلك سوى شيء واحد : أننا هزمنا، وانكسرنا، وأن علينا أن نوقن أننا شعب غير قادر على الكفاح أو التصدي للغزو، وعن ذلك يكتب هذه الأيام الكاتب الفرنسي فريدريك جروه عن أن " الخجل شعور ثوري"، وينصحنا على موقع " معنى" قائلا إن الخجل والشعور بالخزي والعار شعور ثوري! ولا يهدف الكاتب من وراء ذلك إلا لغرز معاني الهزيمة، بل وتجميل الشعور بالهزيمة بصفته شعورا ثوريا، ولا يدل كل ما كتبه ذلك الفرنسي إلا على جهله المطبق بمشاعر الناس أيام النكسة، فلم يكن ثمت شعور لا بالخجل، ولا الخزي، بل بالألم والغضب، وشتان بين الأمرين، الألم الذي تحسه عندما ترى طفلك جريحا والغضب لأن عليك أن تسارع مع ضعف الامكانيات بتقديم الدواء.

أما الشعور بالخجل الذي ينصحنا به الكاتب الفرنسي فلم يكن له وجود قط ، ولا لحظة، ولولا الألم والغضب والانتفاض ضد النكسة ما واصلت مصر طريقها لترد الغزو، كما فعلت طوال تاريخها مع غزوات عديدة تفرقت وبقيت مصر، لكن لم يعد مستغربا أن ينصحنا بالخجل أولئك الذين لا يعرفون شيئا عن الخجل، وأولئك الذين ينحصر كل دورهم في غرز الشعور بالانكسار خلافا للحقائق، وأولئك الذين ينظرون إلى النكسة خارج سياقها التاريخي، اي في إطار الهجمة على ثورة قامت بطرد الانجليز باتفاقية الجلاء 1954، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي ببناء المصانع وبقرارات تمصير الشركات الأجنبية وكسر احتكار السلاح عام 1955، وبناء السد العالي، وتفكيك حلف بغداد الاستعماري 1958، ودعم الكفاح الفلسطيني المسلح، ودعم ثورة الجزائر، وإلهام ليبيا القضاء على القواعد العسكرية، ومساعدة اليمن في الخروج من ظلمات العصور الوسطى، وإتاحة التعليم مجانا لأوسع فئات الشعب.

في هذا السياق تحديدا كان لابد من ضرب الثورة، وفي هذا السياق وقعت نكسة 67، ولم يشعر أحد بالخزي أو الخجل كما يدعي مسيو فريدريك، بل بضرورة الاستمرار.
***
نقلا عن جريدة الدستور