بقلم : زهير دعيم
في مساء خريفي هادئ ، عاد ابو مراد من صيد السمك في البحر الكبير ، فربط قاربه الصغير العتيق والمدهون باللونين الاحمر والازرق.
ربطه سريعًا بعمود حديدي على الشاطئ وحمل غلته السمكية القليلة وعاد ادراجه الى البيت .
والبيت لا يبعد كثيرًا عن الشاطئ ، انه يقع في طرف الحارة القريبة المليئة بالصيادين . وفي الطريق صادف ابو مراد الطفل اليتيم " احسان " والذي صادفه قبل اسبوع تمامًا وعرض عليه الفتى ان يعمل معه في صيد السمك ، فرفض الصياد وقتها معتذرًا بان القارب صغير والصيد شحيح .
تشاءم ابو مراد عندما رأى " احسان " فمنذ أن رآه قبل اسبوع والغلة في نقصان ، ولا تكفي لاستهلاك أهل بيته ، بعد أن كانت وفيرة يبيعها في السوق .
تأفف ابو مراد وتذمر قائلا : " يا ساتر استر " وكيف لا يتأفف والفتى اليتيم بثيابه الرثّة وعينيه الذابلتين تجعله متشائمًا بعكس الكثير من الصيادين الذين يحبونه ويعاملونه بالحسنى ويتصدّقون عليه .
ولكن " احسان " يكره الشفقة ويمقت الرحمة ويرفض ان يتصدّق الناس عليه ، لذلك عرض خدماته على ابي مراد ، هذا الصياد الوحيد الذي يمتلك قاربًا في تلك الحارة .
وصل الصياد البيت وكانت الظلمة قد بدأت تزحف على الحارة ، فاستقبلته زوجته وأبناؤه الصغار بالترحاب فهم ينتظرونه لتناول طعام العشاء .
وبعد العشاء واثناء احتساء الشاي الساخن اللذيذ ، تذمر ابو مراد امام زوجته من شحّ السمك وقلّة الغلّة قائلا : لقد كانت الحالة بألف خير ، كانت الدنيا والبحر يضحكان لنا الى ان جاء هذا النحس " احسان " وعرض خدماته ، ومنذ ذلك اليوم والبحر يعادينا والسمك يجافينا ، والأدهى والأمرّ أن القدر دفعه اليوم أيضًا في طريقي ، فلا تستغربي إن جاء الآتي أشدّ قساوة .
نام الصياد ولم ينم قلقه ، ليصحو في منتصف الليل على هدير العاصفة وعلى وقع حبّات المطر تضرب زجاج النوافذ بشدة ، فانتفض ابو مراد وقام سريعًا الى معطفه وشاله وحذائه يلبسها تساعده زوجته ، فقد ترك القارب على الشاطئ غير محكم الربط ودون غطاء واقٍ من المطر ، وليس ببعيد أن تأخذه العاصفة الى العمق ويملأه المطر بمائه فيغرق وتغرق معه أحلام العائلة بأكملها .
أفٍ .... لقد صدق حدسي قال ابو مراد لزوجته فإن هذا النحس " احسان " سوّد حياتنا وعكّر مزاجنا .... ألم أقل لك أنني اليوم صادفته وتوقعت شرًا .... لقد كان الطقس صافيًا هادئًا لا أثر للغيم والمطر .... يا الهي أرجوك أن تخفّف الوطء عنا !!
حمل ابو مراد مصباحه اليدوي، وانطلق نحو الشاطئ وسط العاصفة والمطر الشديد ، لعله يستطيع أن ينقذ قاربه الصغير من الغرق .
سار حتى وصل الشاطئ بعد عناء كبير من المطر الذي لا ينقطع ، ووقف على الشاطئ والدهشة تملؤه ، ان القارب مشدود جيّدًا الى الشاطئ ومغطى بإحكام واتقان بالغطاء الواقي ، هذا الغطاء الذي كان يقبع في زاوية القارب.
فرك ابو مراد عينيه وحك رأسه ليتأكد من انه لا يحلم .... من صنع معه هذا الخير وهذا الصنيع .... ورفع ابو مراد حاجبيه استغرابًا ودهشة .... ودار هذا التساؤل في رأسه وهو عائد الى البيت ، الى ان وقع نور مصباحه اليدوي على شخص يقبع تحت الشجرة . فاقترب منه ببطء وأنار حوله، فإذا هو أمام الفتى " إحسان " الذي يرتجف من البرد ، والمطر يقطر من شعره وثيابه وكل جزء فيه !!