أحمد الخميسي
كنت ومازلت من عشاق الشاي، لذلك لفت نظري في الفترة الأولى من وجودي في روسيا أن جميع عبوات الشاي المعروضة للبيع داخل المحلات مطبوع عليها: " مشروب مفيد للقلب"، وحين سألت عن ذلك قيل لي إن الشاي يقوي المناعة ومضاد للأكسدة ويقوم بخفض نسبة السكر في الدم، وكنت من عشاق الشاي، ليس بسبب فوائده، لكن كما تعشق امرأة لجمالها فلا تخطر لك حسناتها وعيوبها. ومع اقامتي هناك طرقت أسماعي عبارة أخرى يصف الشعب الروسي الشاي بها : " نبيذ الشرق"، أي أنه السر في روقان الدماغ والمزاج.
ومنذ عام 2019 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال بيوم 21 مايو من كل سنة يوما للشاي العالمي، مما زاد يقيني أنني قضيت عمري على نحو سليم، حينما لم تخل لحظة في حياتي من أكواب الشاي. وتبين احصائيا أن الشاي أكثر مشروب يستهلكه العالم بعد الماء مباشرة! وكان ظهور تلك النبتة الجميلة أول الأمر في جنوب غرب الصين في القرن الثالث ميلادي، وهناك وثيقة لطبيب صيني يدعى " هوا تو " تؤكد استخدام الشاي في ذلك الوقت.
وخلال ثلاثة قرون انتشر الشاي بفضل التجار ودخل مصر من أربعة قرون حتى أصبحت مصر الآن تشغل المركز السابع عالميا والأول عربيا في قائمة الدول مستوردة الشاي. وبخصوص عشق المصريين للشاي فإن ليوسف إدريس قصة جميلة يشير فيها فلاح إلى إبريق الشاي وهو يقول لأخيه: " بزبوز الإبريق ده نزل منه بقرتين وجاموسة" أي أنه لأجل شرب الشاي باع أبقاره وأحالها إلى سائل أي إلى " نبيذ الشرق".
وقد غزا الشاي التاريخ السياسي الوطني في مصر حين هددت أمريكا الزعيم عبد الناصر بقطع المعونة عنه بعد عام 1956، ولم تكن تزيد عن خمسين مليون دولار، فألقى ناصر خطبته الشهيرة التي قال فيها : " اللي سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر.. وإذا كنا النهار ده بنشرب شاي سبعة أيام، نشرب خمسة أيام لغاية ما نبني بلدنا "! في حبسة 1968 ضمتني زنزانة صغيرة في طرة مع صلاح عيسى وشخصين آخرين،
وواجهتنا مشكلة الشاي، ثم تبين لنا أن هناك عدة صغيرة لإعداد الشاي اسمها " التوتو" تشتعل شرائطها بالكيروسين، وأنه ما علينا إلا شراء واحدة من الشاويش محمود بثلاثة علب دخان، وقد كان، ومن لحظتها أطلق علي صلاح عيسى : " ملك الشاي الأعظم" لكي يغريني بإعداد الشاي طول الحبسة، بينما هو يقلب أفكار الكتب وخواطره في رأسه ! شددت الرحال إلى روسيا في ما بعد، وتزوجت من شابة روسية، وأذكر أن بعض أقاربها جاء يزورنا للتهنئة مع باقات الورد وعلب الشيكولاطة، ومثلي مثل أي مصري أصيل نهضت على الفور لأعد لهم الشاي وتركت زوجتي جالسة معهم.
عدت إليهم بعد قليل حاملا الصينية وعليها أكواب " نبيذ الشرق"، لكني فوجئت بلون وجه زوجتى يتقلب من أحمر غاضب إلى أصفر مستاء، وسادت الصالة حالة صمت ثم نهض الضيوف ودعونا وانصرفوا.
وما إن أغلقت زوجتي باب الشقة خلفهم حتى صرخت في : " ما الذي فعلته هذا؟ لماذا قدمت لهم الشاي؟ ". تعجبت وقلت : " واجب الضيافة" . لطمت خديها قائلة : " الشاي عندنا في روسيا لا يأتي إلا في نهاية الجلسة، لأن معناه الوحيد انصرفوا، لا تمكثوا أكثر من ذلك" !!
المرة الوحيدة التي دخلت فيها مستشفى في روسيا كانت بسبب التهاب جدار المعدة، ومكثت فيها سبعة أيام، ومن اللحظة الأولى حذرني الأطباء من شرب الشاي في حالتي هذه، لكنني ظللت أتجرع أكواب الشاي من دون توقف إلى جانب العلاج، وأنا أقول لهم : " المرض عندي أسهل من الاقلاع عن ذلك النبيذ" .