القمص يوحنا نصيف
    + في الحقيقة أنّ هناك مجهودات كبيرة قد بُذِلَت من جهة الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة، لأجل تحقيق هذا الهدف العظيم الذي صلّي من أجله السيّد المسيح في صلاته الوداعيّة، أن يكون الجميع واحدًا (يو17: 21-23).. ولعلّ هذا هو اشتياق كلّ إنسان مسيحي، يحيا بالروح ويشعر بعضويّته في جسد المسيح، ويدرك كيف أنّ الوحدة المسيحيّة بمحبّة حقيقيّة ستكون أعظم شهادة للمسيح، أمام غير المؤمنين في العالم كلّه!

    + لقد بدأت جهود الوحدة منذ منتصف القرن العشرين، ودخلَتْ الكنيسة القبطيّة منذ عهد القدّيس البابا كيرلس السادس، في حوارات غير رسميّة، ثمّ في حوارات رسميّة مع كافّة كنائس العالم.

    + في عام 1988م وبعد جهود ناجحة، تمّ التوقيع مع العائلة الأرثوذكسيّة الخلقيدونيّة ومع الكنيسة الكاثوليكيّة على اتفاقيّة مشترَكة حول موضوع طبيعة السيّد المسيح.. هذه القضيّة التي كان الاختلاف حولها سببًا في انقسام الكنيسة بمجمع خلقيدونية عام 451م. وقد تمّ توقيع هذه الاتفاقيّة في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون في ضيافة مثلّث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث. وكانت الصياغة كالآتي:

    "نؤمن أنّ ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، الكلمة المتجسِّد، هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته، وجَعَلَ ناسوتَه واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاجِ ولا تغيير ولا تشويش، ولاهوته لم ينفصل عن ناسوتِهِ لحظة واحدة ولا طرفة عين. وفي نفس الوقت، نَحرِم كلاّ من تعاليم نسطور وأوطاخي".

    + وفي سبتمبر من عام 1990م، تمّ الاتفاق بين عائلتنا الأُرثوذكسيّة الشرقيّة القديمة، والعائلة الأرثوذكسيّة الخلقيدونية، على رفع الحروم المتبادلة، وقام بالتوقيع على هذا الاتفاق مندوبَان من كنيستنا؛ هما نيافة المتنيّح الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدّس الأسبق، والقمّص تادرس يعقوب ملطي حفظه الربّ.. وبدأ التمهيد لصلاة قدّاس مشترك بين العائلتين لتحقيق الوحدة الكاملة، وكان مخطّطًا لهذا القدّاس أن يكون في عام 1993م؛ ولكنّ التغييرات التي حدثت في روسيا بعد انهيار الشيوعيّة في عام 1991م أجّلت هذه الخطوة النهائيّة.. ثمّ ظهرت مشاكل أخرى سياسيّة لدي كنائس العائلة الخلقيدونية الأكثر عددًا، وللأسف حدث الآن بعض انقسامات وحرومات داخليّة بين بعضهم البعض لأسباب سياسيّة.. أمّا من جهة عائلتنا الأُرثوذكسيّة غير الخلقيدونية فنحن جاهزون للوحدة الكاملة منذ عام 1990م، ونصلّي وننتظر خلاصَ الربّ.

    + جديرٌ بالذِّكر أنّه منذ الخمسينيّات من القرن الماضي، توجَد وحدة كاملة في سوريا ولبنان بين كنيسة السريان الأرثوذُكس وكنيسة الروم الأُرثوذُكس؛ في ممارسة جميع الأسرار، مع احتفاظ كلّ كنيسة منهما بتراثِها وطقوسِها، واحترام كامل لتراث الكنيسة الشقيقة.. فدائمًا مع المحبّة والفهم المتبادَل تتبدّد الغيوم، ويعود الصفاء للعلاقات بين الإخوة، خاصّةً أنّ الإيمان الواحد المُشتَرَك محفوظ داخل التراث الليتورجي والآبائي لكلّ كنيسة.

    + يؤسفني أنّه توجَد الآن بعض أصوات من الذين لا يَعرِفون، أو يتجاهلون هذا التاريخ الحديث المهمّ، تحاول أن تعود بنا إلى الوراء، ويَصِفون كنائس العائلة الأُرثوذكسيّة الخلقيدونية الحالية بأنّهم هراطقة يجب مقاطعتهم.. بالطبع هذه رِدّة إلى الوراء واستهانة بعمل مسكوني ضخم تعب فيه آباؤنا لوقت طويل حتى وصلنا على أعتاب الوحدة الأُرثوذكسيّة الكاملة. ومن المؤلم أيضًا أن يسير بعض البُسَطاء في نفس الركْب، مع عدم وجود بيانات رسميّة مستمرّة من الكنيسة تشرح الحقائق وتتصدّى لهؤلاء المتطاولين الذين يَدّعون حماية الإيمان والدفاع عن الأُرثوذكسيّة، وهم أبعد ما يكونون عن فهمها.

    + لذلك، أرى أنّه من الضروري على لجنة الحوار اللاهوتي الموجودة في كنيستنا، والتي تتواصَل مع الكنائس الأخرى باللقاءات والمؤتمرات، أن يكون لها حضور قوي ومستمرّ على الميديا، فتشرح للشعب القبطي في جميع أنحاء العالم بكلّ وضوح، ما وصلنا إليه في حواراتنا واتّفاقاتنا مع مختلف الكنائس في العقود الخمسة الأخيرة، وعند أيّ نقطة نقف الآن؟ وما هي الخطوات القادمة؟ حتّى يتعرّف الشعب على المجهودات المبذولة في هذا الاتجاه.

    وتَبقَى الصلاة هي ملجأُنا الأوّل والأخير.

القمص يوحنا نصيف
مايو 2024م