بقلم استاذ دكتور سامح مرقس
شفيلد، انجلترا

منذ القرن السابع عشر، استخدم بعض الكتاب كلمة "العلم" فقط للإشارة إلى العلوم التطبيقيه  (علوم الحياة والفيزياء والهندسة والكيمياء والرياضيات), ورفضوا تصنيف الدراسات الانسانيه  ضمن التخصصات العلمية, لتصورهم انها لا  تلتزم  بالموضوعيه والاساليب العلميه التقليديه وانها تميل الي التاثر  بالمشاعر الانسانيه مثل العواطف، والخيال ، والذكريات، والحدس،  والمعرفة الفطرية.  وللتوضيح, تتضمن الدراسات الانسانيه  علم الاجتماع , والسياسه, والاقتصاد, والفلسفة, والأخلاق، والدين،  والتاريخ، بما في ذلك تاريخ العلوم، وعلم اللغة، والأدب, وتعلم اللغة،  والفن بانواعه المختلفه بما في ذلك الموسيقى والفنون المسرحية والفنون الجميلة والحرف اليدوية٠  

وفي القرن التاسع عشر, استخدم مصطلح "اللاعلم" للدراسات الانسانيه لتمييزها عن العلوم التطبيقية, والتي كانت تسمى أيضًا “العلوم الصلبة”، بينما كانت الدراسات الإنسانية تسمى “العلوم الناعمة”. ولا علاقة لهذا التصنيف بصعوبة أو جدوى مجالات الدراسة، بل بمدى الدقة العلمية في اساليب البحث الخاصة بها.  واقترح  الفيلسوف الالماني "مارتن مانر" تسمية الدراسات الانسانيه  بالتخصصات المجاوره للعلم "parascience "  لانه لا يمكن اختبارها بالطرق العلمية التقليدية٫  ولكن يجب تمييزها عن  العلم الزائف pseudoscience “ " الذي يقدم معلومات خاطئة.

اعترض الفيلسوف النمساوي "بول فييرابند"، على الجهود المبذولة لتصنيف المعرفة إلى "علم"  و "لاعلم" ٫ واعتبر هذا التمييز مصطنعا، ولا يوجد سوى القليل من الارتباط بين جميع أنواع التخصصات التي تسمى "العلوم". واوضح  فيلسوف العلوم الأمريكي”توماس كون“ ان الحدود بين ا"لعلم" و"اللاعلم" مبنيه علي دوافع اجتماعيه وأيديولوجية ولا تمثل فرقا  صارخا بينهما٫ والاعتقاد بأن المعرفة العلمية (مثل علم الأحياء) أكثر قيمة من أشكال المعرفة الانسانيه (مثل علم الأخلاق) هو تعالي اطلق عليه مصطلح  العلموية ”scientism“ .

حاليا، يعتبر المصطلح الالماني”فيسنشافت“ (Wissenschaft ) اكثر دقه وشمولا من المصطلح الانجليزي  "science اي علم" لانه يشير الي كل الدراسات الانسانيه والعلوم التطبيقيه  بالاضافه الي  المنح الدراسية٫ والبحث العلمي، والتعليم العالي٫والأوساط الأكاديمية٠ وفي حين أن  المصطلح الالماني  ”فيسنشافت“ يشمل جميع الانشطه الأكاديمية ، فان  المصطلح الانجليزي "العلم"يعاني من محدوديه شديده  في الاشاره الي كل الجهود المعرفية ، كما يعتبر البعض ان اللغه الإنجليزيه غير مناسبه لدراسه نظرية المعرفة ”epistemology“، التي يشيع في مناقشتها مصطلحات من اللغه اللاتينية والألمانية٠

  الاجابه علي السؤال عنوان المقال؛ هل تعتبر العلوم الإنسانية علماً مثل العلوم التطبيقية؟  ان الدراسات الانسانيه  هي علوم تلتزم  بمعايير موضوعيه, واسلوب بحث يقلل من اي تحيزات بشريه سابقه٠ وادراك منهجيه وموضوعيه الدراسات الانسانيه امر ضروري  لفصل جميع الانشطه العلميه الاكاديميه عن العلوم الزائفة مثل علم التنجيم، والتصوير الكيرلياني (Kirlian photography )"التصوير الكهربائي" ، وعلم الباراسيكولوجي والخوارق  paranormal ) ) ، بالاضافه الي  الممارسات الطبيه الهراء  مثل علاج المثليه الجنسيه او استخدام عقارات  لعلاج امراض دون ادله علميه وقد تكون ضاره  بالصحه وغيرها من الممارسات التي تقدم ادعاءات كاذبة ،  ولمنع انتشار هذه الممارسات لا بد من  تطوير الثقافة العلمية ونشرها٠

وفي الختام , نقدم علم  التاريخ  كمثال لتوضيح المنهجية العلميه في الدراسات الانسانيه , وقد يساهم هذا الاختيار  في الرد علي الاتهامات الشديده التي وجهت  مؤخرا لعالم مصريات مشهور في محاولته الصادقه  لتوضيح موقف علم التاريخ تجاه تفاصيل غير حقيقيه حول قصه خروج الشعب اليهودي من مصر ورحلتهم الشاقه عبر صحراء سيناء .  وسنبدأ اولا  بتوضيح ان كلمة تاريخ  تعود الي المصطلح اليوناني. " estoria   او historia  " الذي عني جمع المعلومات  عن احداث هامة من الماضي. ويعتمد توثيق التاريخ علي الدراسه المنهجية للوثائق، والسجلات، والمحفوظات،  والنقوش القديمة، والحفريات ٠ ويستخدم  علماء الآثار التأريخ بالكربون المشع لتحديده تاريخ المخطوطات القديمه والحفريات بدقه. وتتضمن المنهجيه العلميه في دراسه التاريخ القديم ؛ دراسه  الحفريات "Paleontology" , ودراسة الكتابة اليدوية التاريخية" Palaeography " ، وكذلك استخدام التنقيب الجيوفيزيائي، وغيره من التكنولوجيا الحديثه .  ويعتبر  "علم الآثر" أحد الركائز العلمية اللازمة لدراسة التاريخ من خلال التحليل المنهجي لبقايا المواد  مثل الأدوات والفخار والأشياء الاحتفالية والنفايات الغذائية , وهذا ضروري بشكل خاص في دراسة الثقافات التي ليس لديها لغة مكتوبة. وتلتزم  اعمال التنقيب في المواقع الأثرية بالإزالة المنهجية للتربة والآثار، مع جمع وتسجيل وتحليل ورسم خرائط المعلومات المتعلقة بكل طبقه من طبقات التربة والقطع الاثريه المرتبطة بكل طبقة, والتي تدل عن أنماط السلوك البشري في الماضي٫وهذا أمر ضروري لفهم التغير في سلوك الإنسان مع مرور الوقت، وتطور الأنشطة المختلفة مثل الزراعة، والكشف عن أسباب انهيار الحضارات الكبرى.

ومن ثم فإن  الدراسات الانسانيه هي علوم حقيقيه وليست "لا علم ", ولا يجوز الاستهانة بموضوعية هذه الدراسات وصدقها.  وان المعرفه  بمختلف انواعها ومصادرها الملتزمه بقوانين وقواعد موضوعيه,   كلها وساءل لاكتشاف حقائق العالم المحيط بنا بصدق, بعيدا عن اي تحيزات مسبقه٠  وتهدف هذه الجهود العلميه الي تحسين حياه الدانسان وحمايته من مخطار الوجود  سواء من المرض او غضب الطبيعه.