أيمن زكى

فى مثل هذا اليوم من سنة 445 م. تنيح الأب العابد الحكيم المجاهد القديس انبا أرسانيوس وقد ولد هذا القديس بمدينة رومية من والدين مسيحيين غنيين جدا فعلماه علوم الكنيسة ورسماه شماسا وقد نال من الثقافة اليونانية قسطا وافرا ومن الفضيلة المسيحية درجة كاملة حتى أن الملك ثاؤدسيوس الكبير لما طلب رجلا حكيما صالحا ليعلم والديه أنوريوس وأركاديوس , لم يجد أفضل منه فاستحضره إلى قصره وعهد إليه تعليم ولديه. فأدبهما وعلمهما بما يتفق مع غزارة علمه. وقد حدث أن ألجأه الاجتهاد في التعليم، إلى أن ضربهما مرة ضربا موجعا لذلك لقب القديس ارسانيوس بمعلم اولاد الملوك. 

فلما مات والدهما وملك أنوريوس علي روميه وأركاديوس علي القسطنطينية تذكر القديس أنه كان قد ضربهما مرة وأن أنوريوس ينوي له شرا. وبينما هو يفكر في هذا الآمر أتاه صوت من قبل الرب قائلا: يا أرساني أخرج من العالم وأنت تخلص. وحالما سمع هذا الصوت غير زيه وأتي إلى مدينة الإسكندرية ثم ذهب إلى برية القديس مقاريوس وهناك أجهد نفسه بالصوم الكثير والسهر الطويل

وحدث أن كان يعرض أفكاره في بدء رهبنته علي راهب بسيط فتعجب منه الرهبان وقالوا له: "أمثل أرسانيوس الذي أحرز علوم اليونان والرومان يحتاج إلى إرشاد هذا الراهب البسيط"؟ فأجابهم: (ألفا) (فيتا) القبطية التي يتقنها هذا الراهب لم يتقنها أرسانيوس بعد وكان يعني الفضيلة.

جاءه رسول من روما يحمل وصية أحد أقربائه المتوفين يهبه فيها كل ما تركه فسأل الرسول "متي مات هذا الرجل؟" فقال له: "منذ سنة " فأجابه: ,أنا مت منذ إحدى عشرة سنة. والميت عن العالم لا يرث ميتًا".

زارته مرة إحدى شريفات روما عندما بلغها خبر تقواه وبعد أن جلست معه مدة طلبت منه أن يذكرها في صلاته فأجابها " أرجو الله أن يمحو ذكراك من عقلي " فرجعت متأثرة وشكت للبابا محتجة علي هذا الكلام، فأفهمها البابا ثاؤفيلس قصده وهو: خوفه من أن ذكراها قد يستخدمها الشيطان وسيلة لمحاربته.

ولما بدأ أرسانيوس الرهبنة كان ينتقي لنفسه الفول الأبيض أثناء تناول الطعام ولما لاحظ الرئيس ذلك ضرب بلطف الراهب المجاور لأرسانيوس وقال له: "لا يصح أن تميز نفسك عن اخوتك وتنتقي الفول الأبيض " فقال أرسانيوس: "هذا القلم علي خدك يا أرسانيوس". وأردف قائلًا: "هوّذا أرسانيوس معلم أولاد الملوك، لا يعرف كيف يأكل الفول مع رهبان إسقيط مصر!!"

وأتقن فضيلة الصمت ولما سئل عن سبب ذلك قال: "كثيرا ما ندمت علي ما تكلمت ولكني لم أندم علي السكوت قط".

وكان متضعا جدا ويعيش من عمل يديه في ضفر الخوص متصدقا بما يفضل عنه وقد وضع تعاليم نافعة وكان إذا دخل الكنيسة يتواري وراء عمود حتى لا يراه أحد.

قيل عن أنبا أرسانيوس أنه حين كان في العالم كان رداؤه أنعم من أي إنسان آخر، وحين عاش في الإسقيط كان رداؤه أحقر من الجميع

وكان منظره حسنا بشوش الوجه طويل القامة إلا أن كثرة السنين أحنت ظهره.

وقد كان دائم التذكير لنفسه قائلًا: "أرساني.. أرساني.. تأمَّل فيما خرجت لأجله."

حدث مرة أن جاء أخ غريب (ومعه راهب من داخل الدير) إلى الإسقيط ليبصر الأنبا أرسانيوس، فلما قرع الباب فتح له فدخل وصليا معًا وبقى الأنبا أرسانيوس صامتًاُ طوال الوقت.. حتى تضايق الأخ ومشى..

وفي طريق العودة أخذه الراهب الذي من الدير إلى قلايه القوى القديس الأنبا موسى. فلما أتي إليه قابلهم بالترحاب وبفرح، وتحدث معه وأطعمه.

فقال له الأخ الذي أرشده: "ها قد أريتك اليوناني والمصري، فمن من الإثنين قد أرضاك؟!" فأخبره الغريب بأنه يفضِّل المصري أكثر.

فلما سمع أحد الأخوة ذلك صلّى إلى الله قائلًا: "يا رب اكشف لي هذا الأمر: فإن قومًا يهربون من الناس من أجل اسمك، وقومًا يقبلونهم من أجل اسمك أيضًا؟!!!" وألحّ في الصلاة والطلبة فتراءت له سفينتان عظيمتان في لجة البحر. ورأى في أحدهما الأنبا أرسانيوس وهو يسير سيرًا هادئًا وروح الله معه.. ورأى في الأخرى الأنبا موسى وملائكة الله معه وهم يطعمونه شهد العسل.

وقد حدث مرة انه حكى القديس لتلاميذه أنه رأي رؤيا نسبها إلى أحد الشيوخ قائلا: كان أحد الشيوخ جالسا في قلايته فسمع صوتا يقول "أخرج خارجًا فأريك أعمال الناس"، فلما خرج رأي رجلا أسود يقطع حملا من الحطب ولما بدأ يرفعه لم يستطع وبدل من أن ينقص منه زاد عليه وحاول حمله فلم يستطع أيضا واستمر علي هذه الصورة ثم مشي قليلا فأراه رجلا آخر أمام بئر يأخذ الماء منها ويصبه في قدر مثقوب فلا يمتلئ القدر.. ثم أراه رجلين راكبين علي فرسين ومعهما عامود يحمله كل منهما من أحد طرفيه ولما أتيا إلى الباب أبت الكبرياء عليهما أن يتأخر أحدهما ليدخلا العمود طوليا ولذلك بقيا خارجا.

ثم أخذ القديس أرسانيوس يفسر هذه الرؤيا فيقول: إن حامل الحطب هو إنسان كثير الخطايا وبدلا من أن يتوب يزيد خطاياه ثقلا علي ثقل، 

وناقل الماء هو من يعطي عطايا لكنها من ظلم الناس فيضيع أجره، 

وحاملا العامود هم حاملو نير ربنا يسوع المسيح بلا تواضع فيقفون خارج الملكوت.

وقد زار أورشليم وهو سن السبعين وتبارك من الأماكن المقدسة ورجع إلى الإسقيط وبلغ من العمر خمسًا وتسعين سنة منها في روما أربعون سنة وفي برية القديس مقاريوس أربعون وعشر سنين في جبل طره قريبا من مصر وثلاث سنين في أديرة الإسكندرية ثم عاد إلى جبل طره وأقام فيه سنتين.

وكان قد أوصي تلاميذه أن يلقوا جسده علي أحد الجبال لكي تقتات به الوحوش والطيور ولكن خوفا استحوذ عليه عند مفارقة نفسه من جسده فقال له تلاميذه "هل مثل أرسانيوس يرهب الموت؟" فأجابهم قائلًا: "منذ دخلت في سلك الرهبنة وأنا أتصور هذه الساعة"، وسكن جأشه وهدأت أنفاسه واشتمل محياه بالسلام ولسان حاله يقول "إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي " وتنيح بسلام عام 445 م وبعد ذلك ظهر عمود نور عظيم في كل المكان، وأشرق وجهه.. وعلم بعد ذلك الجميع بموته، وجاء الكثيرين (رهبانًا وعلمانيين) ليتباركوا بجسده، وحدثت معجزات شفاء كثيرة... 

ولما علم بنياحته الملك ثاؤدسيوس الصغير ابن أركاديوس أحضر جسده إلى القسطنطينية. ثم أمر أن يبني في المكان الذي تنيح فيه دير كبير وهو المعروف في التاريخ بدير القصير.

بركة صلاة هذا القديس تكون معنا امين... 

ولربنا المجد دائما ابديا آمين...

المسيح قام من بين الاموات... 

 

خرستوس انيستي اكنكرون..