د. سامح فوزى
التقى عدد من المثقفين، والبرلمانيين، والمهتمين بالمجتمع المدنى من مصر والعالم العربى مع نظراء لهم من أوروبا فى جزيرة كريت باليونان فى حوار امتد يومين بدعوة من منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الانجيلية للخدمات الاجتماعية، بالشراكة مع عدد من الهيئات الأوروبية، من بينها الأكاديمية الأرثوذكسية. جاء الحوار متأثرًا بالأحداث، ليس فقط فى غزة ولكن أيضا فى أوكرانيا، وشكل مناسبة مهمة عبر من خلالها المجتمعون عن رفض استمرار الحرب، واستهداف المدنيين، وتدمير البنية الأساسية للمجتمعات. وقد بدا لى أن عودة الحرب إلى أوروبا منذ أكثر من عامين، شكلت وعيًا لدى الأطراف الأوروبية، المثقفين ورجال الدين والمجتمع المدنى، بالمآسى والأهوال التى تشهدها غزة.

لم يكن هناك اختلاف بين المشاركين العرب والأوروبيين فى ذلك، وامتد الحوار إلى قضايا مهمة تتصل برسالة المؤسسات الدينية فى إطفاء الحرائق، والمطالبة بإيقاف الحرب، وأهمية الإعلام فى بناء جسور التعايش، وخطورة الدور الذى يلعبه الإعلام الالكترونى سواء فى نشر المعلومات وتحقيق الشفافية، أو ممارسة التحريض، وبث رسائل الكراهية، ونشر المعلومات المغلوطة والشائعات، وكذلك وظيفة المؤسسات التعليمية فى تربية النشء على قيم التنوع واحترام الاختلاف وقبول الآخر ونشر ثقافة التسامح، والدعوة إلى التنمية التى تقدم خبرات فى القدرة على تغيير المجتمعات من خلال الحوار.

جاء الوفد المصرى المُشارك متنوعًا، ثقافيًا ونوعيًا وجيليًا ومهنيًا، حيث ضم عددًا من أعضاء مجلس النواب، وكفاءات تكنوقراط فى مجالات الثقافة وحقوق الإنسان والإعلام، وقد لفتت الكلمة التى ألقاها المستشار محمود فوزى رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطنى اهتمام المشاركين عربًا وأوروبيين، والتى أبرز خلالها تجربة الحوار الوطنى، ومخرجاته، وآفاق المستقبل، وأشار كثير من المشاركين إلى أهمية هذه التجربة الثرية، والتطلع إلى نقلها إلى مجتمعاتهم، وضرورة أن تحظى بدعم القيادة السياسية مثلما هو الحال فى الخبرة المصرية.

ويُمثل الحوار العربى الأوروبى أهمية خاصة، ليس فقط لاعتبارات الجوار الجغرافى، ولكن أيضا لوجود علاقات وتحديات ثقافية وسياسية على الجانبين. فمن ناحية أولى تأتى مسألة اختلاف النظرة بينهما، حيث يسود فى شمال المتوسط هاجس «الأمن»، ويغلبه التفكير فى الهجرة غير الشرعية، والتطرف، وتأمين الحدود، الخ، وفى جنوب المتوسط هناك هاجس «العدالة»، ليس فقط فى فلسطين، ولكن أيضا تجاه النظام العالمى برمته، سياسيًا واقتصاديًا، حيث تدفع الدول العربية فاتورة ثقيلة للتقلبات العالمية، رغم أنها غير مُشاركة فى صنعها أو متسببة فيها، مثل ارتفاع أسعار الغذاء فى أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات التغيرات المناخية الممتدة، والأزمات والأوبئة مثل فيروس كوفيد-19،وتدفق اللاجئين من مناطق الحروب إلى عدد من دول المنطقة، وهو ما خلق تحديًا بالنسبة لها، وضغطًا على مواردها، وتحولها من قضية إنسانية إلى ملف سياسي. واقع الحال، أن الأمن والعدالة ليسا مفهومين متناقضين، لكنهما متداخلان، يقود كل منهما للآخر، ويجب استيعابهما معًا فى سياق واحد.

ومن ناحية أخرى تظل صورة الذات والآخر لها دلالاتها، خاصة فى ضوء تصاعد الاتجاهات «الشعبوية»، وما يعرف بالاسلاموفوبيا فى بعض الدول الأوروبية، فهل صورة العربى لا تزال تٌختصر فى اشكال ذهنية نمطية مثل «المهاجر غير الشرعي» أو «المتطرف»، وعلى الجانب الآخر هل لا تزال صورة الغربى تحيط بها الشكوك فى النوايا، والمؤامرات، واستدعاء التاريخ الاستعمارى، ولاسيما فى ظل استمرار سياسة الكيل بمكيالين، والازدواجية التى ما برحت تحكم سياسات الغرب تجاه منطقة الشرق الأوسط، ولعل الحرب فى غزة خير تأكيد على ذلك.

وفى سياق حديث ممتد تناول مسائل متشعبة من دور المؤسسات الدينية، والإعلامية، والثقافية، واستمع المشاركون إلى أصوات من العالم العربى وأوروبا حول الحرب فى غزة وأوكرانيا، كان من الضرورى أن يٌشار إلى الشباب، نظرًا لأنهم أكثر الفئات العمرية التى تدفع ثمن الأزمات، وتتطلع إلى مستقبل أفضل. ويظل الموقف بالنسبة للشباب أكثر تعقيدًا، فهم يواجهون عالمًا تُنزع عنه الإنسانية ليس فقط بفعل الحروب الممتدة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضا نتيجة للتطورات التكنولوجية المتسارعة، مثل تطبيقات الذكاء الاصطناعى، التى تشكل تحديًا لإنسانية الحياة، ويحتاج الجيل الجديد إلى التسلح بالقيم الروحية التى تساعده على مواجهة التحديات الأخلاقية المحيطة بها، حاضرًا ومستقبلا.

إجمالا شكل الحوار العربى الأوروبى مناسبة مهمة لتبادل الآراء والأفكار حول القضايا الراهنة، وهو ما يُعد من أبرز ملامحه طيلة السنوات العشر الماضية،حيث ظل ينتقل من محطة لأخرى حسب القضايا المثارة بين العرب والأوروبيين، مما أعطاه حيوية، وتجديدًا مستمرًا، ونزع عنه النمطية، والكلام المٌستهلك المتكرر.
نقلا عن الأهرام