مدحت بشاي
معلوم أن ممارسة أى إجراء أو عملية نقدية من شأنها دعم تنمية التفكير والدفع فى اتجاه التخلص من الأداء المتردد المرتعش الوجل الخائف من التصريح بالحقائق والقدرة على التعامل معها بموضوعية وشجاعة، ومن ثم إضعاف فرص دعم التفكير الإبداعى وطرح رؤى جديدة صالحة للبناء عليها، ودون الثبات المَرضى فى مربعات الجدب الفكرى والعطش الإبداعى أو التراجع القيمى..
وعليه، أتفق مع مقولة جورج أورويل: «كلما ازداد المجتمع ابتعادًا عن الحقيقة، ازداد كراهية لمن يتحدثون عنها».. فسنظل فى حالة عطش معرفى يفجر معطياتها ممارسة كل آليات النقد بكل أشكاله الإبداعية والعلمية والتطبيقية، والمتفاعلة مع كل سبل المد الحضارى والإنسانى عبر العالم فى دنيا الإنسان..
وهنا، تبرز أهمية تفعيل كل وسائط وأجهزة الإنتاج النقدى وهى المعنية بشأن التقييم والمراجعة عبر كل وسائطها الناقلة والمنتجة للفكر الناقد والمختصة بتفعيل سبل وإنارة منافذ إثارة العقل والفكر، وتحريك الأفكار، وتقليب منتجات وجهات النظر، لتصبح أكثر نضجًا وقوة، ولإتاحة المزيد من التفاعلات الإنسانية الأكثر عصرية وقدرة على التفاعل الإيجابى فى الشارع المصرى..
ومعلوم أن النقد فى العموم هو فن إطلاق الحكم الوصفى والتقييمى للمنتج الإبداعى، أى الفصل بين الأشياء والحقائق التى يختلف حولها ووضعها موضع الجدل والتقييم، وهو بهذا يُعد أحد أهم المحددات العقلية فى الاختبار والحكم التى يمتلكها الإنسان والتى تجنبه الخطأ والضلال.
وعندما يكون الكاتب والمبدع والناقد بحجم وقامة العظيم «يوسف إدريس»، ويتوقف قلمه عن الكتابة، يبادر الكاتب الكبير والمبدع التاريخى «توفيق الحكيم»، ويحرر خطابه البديع للسؤال عن حال أديب مرموق بقامة يوسف إدريس، كتب فيه «يوسف إدريس أراه فى مبنى الأهرام بجسمه، ولا أراه على صفحاته بقلمه، ولا شك أن الآلاف من القُراء يُشاركوننى فى هذا السؤال: أين ذهب هذا القلم المطبوع؟ ولماذا سكت هذا الصوت المسموع؟ وفى زماننا الغابر، كنت أرى الشيخ سلامة حجازى يقف على المسرح فى مسرحية شكسبير، يصيح أمام جوليت النائمة المُخدرة بلحنه الشهير: أجوليت، ما هذا السكوت؟ وأنا اليوم أصيح بصوتٍ أجشَّ ولحنٍ جهير: أيوسف، ما هذا السكوت؟»..
وفى رده على رسالة «الحكيم» يكتب «إدريس»: «رسالتك تلك، ولو أنها بلا تاريخ فإن لها قيمةً تاريخية عندى، وعند أى كاتب فى مصر أو فى العالم العربى، فهى من شيخ الكُتاب حين يقرأ، وحين يُحِس بغياب كاتب، وقد أكون أنا الغائب هذه المرة، ولكنى لن أكون الأخير، فما أكثر الأسباب التى تُرغم الكاتب على الغياب فى عالمنا هذا!..»..
ويختتم رده «لم أسكت يا أستاذنا ولن أسكت، فالسكوت ليس نومًا ولا بتأثير مُخدِّر يضعه كاهن لكاتب، السكوت للكاتب موتٌ مُحقق، وإذا كنت أنا قد سكتُّ عن الأهرام أو سكتَ الأهرام عنى، فأسباب السكوت عاصفة كانت هوجاء..».
وكان «إدريس» يرى أن الحركة الفنية والأدبية تمر بفترةٍ عصيبةٍ لم تشهد لها بلادنا مثيلًا فى تاريخها، إنها فى حالة حُمَّى، درجة الحرارة مرتفعةٌ لا من جودة الأعمال الفنية والأدبية، وإنما من شدة الزِّحام وعُلُو الضَّجَّة واختلاط الحابل بالنابل واندحار القِيَم..
لقد انتقد «إدريس» الحالة التى عليها حال الكتابة الصحفية وحالة الإبداع بشكل عام، حيث كان يرى أن أىّ مُخبرٍ صحفى باستطاعته بين يومٍ وليلةٍ أن يكون فنانًا وكاتبًا، ويُقدِّم أعمالًا للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، أىّ إنسانٍ قرأ كتابًا عن الإخراج باستطاعته أن يُخرج أعمالًا فنية.
يحتار فى تقييمها النُّقَّاد، أىّ إنسانٍ يَفُك الخط باستطاعته أن يُؤلِّف أُغنيةً تَقبلها الإذاعة وتُصبح من مختاراتها، أىّ مجموعةِ مقالاتٍ باستطاعتها أن تُصبح كتابًا مُحترمًا يُناقشه النقاد فى البرنامج الثانى وأعمدة النقد، أيُّ بَطلِ حلَقاتٍ باستطاعته أن يُؤلِّف قصصًا ويضع نفسه على قدَم المساواة مع شابلن.
أىّ عازفٍ باستطاعته أن يُؤلِّف موسيقى تَعزِفها فرقة القاهرة السيمفونية، أىّ صاحبِ نَجمةٍ أو زوجها باستطاعته أن يكون مُمَثِّلًا ونجمًا، وأىّ مُمثلٍ باستطاعته أن يكون مُخرجًا ومُنتجًا وأىّ قارئٍ لمقالٍ عن الاشتراكية باستطاعته أن يكون كاتبًا اشتراكيًّا، وأىّ كاتبِ يومياتٍ باستطاعته أن يُؤلِّف للمسرح والسينما والإذاعة. وأىّ عائدٍ من الخارج باستطاعته أن يكون عبقريًّا ودكتورًا فى الإخراج، وأىّ إنسانٍ باستطاعته أن يكون أى شىء فى أربع وعشرين ساعةً وربما أَقَل..
ويبقى السؤال: ماذا لوكان بيننا: «يوسف إدريس» 2024؟!
نطرح السؤال فى ذكرى أسبوع ميلاده (19 مايو 1927) وقبل 3 أعوام من الاحتفال بمئوية كاتب مصرى عظيم.
نقلا عن المصري اليوم