نيفين مسعد
يكن قد سبق لى أن دخَلت من قبل غرفة العمليات إلا مرة واحدة فى حياتى. كنت حينها فى التاسعة عشرة من عمرى عندما أُجريت لى عملية إزالة اللّوز، وعندما أتى خطيبى لزيارتى فى المستشفى انتابنى شعور بالخجل الشديد لأن عملية اللّوز عادةً ما تُجرى للأطفال فى سن صغيرة، أما وأنا طالبة فى السنة الثانية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومخطوبة حديثا للرجل الرائع الذى صار زوجى لاحقا فلم أكن مرتاحة أبدا، ولعلى كنت أفضّل أن تكون جراحتى عليها القيمة كجراحة إزالة المصران الأعور مثلًا لأنها تُجرى للناس فى كل الأعمار، أما إزالة اللوّز فى سنٍ كبيرة، ففيها كلام. لكن على أى حال هذا ما قد كان.

• • •

فى الاستعداد لإجراء جراحة استئصال الورم كان لابد كالعادة من عمل رسم قلب قبل العملية للاطمئنان على حالته، وبعد أن انتهيت من هذه الخطوة ابتسم لى الطبيب مبشّرًا وقال: «يالا يا ستّى روحى اعملى عمليتك وهيصّى!». بادلته الابتسامة بمثلها وإن كنت أظن أن ابتسامتى شابها بعض البلاهة فلم أكن أعرف بالضبط كيف أهيّص وأنا على وشك أن أجرى عملية فتح بطن يصفها الجميع بأنها كبيرة. هنا استعدتُ الموقف القديم الخاص بعملية اللوّز وكيف كنتُ أخجل منها لأنها عملية صغيرة، وها قد جاءتنى الفرصة ..الفرصة؟ لإجراء العملية الكبيرة. وجدتُ أننى مع اختلاف التفاصيل فى نفس موقف الفنان عبد المنعم إبراهيم فى فيلم «إشاعة حب» عندما قال إنه مستعّد أن يدفع نصف عمره ليرى الجميلة هند رستم فرّد عليه الكبير يوسف وهبى ــ بينما عادل هيكل خطيب هند رستم يرفع سلاحه فى وجه الجميع ــ «مش كنت عايز تدفع نص عمرك علشان تشوفها.. اتفضّل ادفع عمرك كله بقى»، فى هذه اللحظة ندمتُ على سخريتى أيام زمان من بساطة عملية اللوّز. أما ثانى جملة استوقفتنى فى مرحلة الاستعداد للجراحة بعد جملة «اعملى عمليتك وهيّصى» فإنها كانت جملة قالها لى أحد أعضاء الفريق الطبّى، وذلك قبل أن يقدّم لى طبيب التخدير الـ «welcome drink« على حد تعبيره ويقصد بها حقنى بالمخدّر، والجملة التى استوقفتنى هى «الجراحة بالمنظار صعبة على الطبيب سهلة على المريض». ومع أن الرجل كان يريد بذلك طمأنتى إلا أن عقلى فى تلك اللحظات لم يكن معه، ولا كانت هناك أبدًا فرصة للتدبّر فيما قاله، كل ما كنت أفكّر فيه أننى بعد لحظات سأكون فى دنيا غير الدنيا لآكل أرزًا مع الملائكة. وعندما أخبرونى أننى أخذتُ وقتًا طويلًا جدًا حتى أفيق، بدا لى كما لو أننى استخدمتُ طريقتى المعتادة فى الهروب من المواقف المؤلمة، فأنا عادةً ما أواجه الألم والحزن والإحباط والتعثّر بالنوم لساعاتٍ طويلة أو ربما بالتناوُم. وبعد أن استيقظتُ واشتّد علىّ الألم وعاندنى النوم، سأَلتُ الممرضة ببراءة متناهية: ممكن مورفين من فضلك؟ فرّدت بحسم بأنه لا مورفين أكثر من مرة واحدة تجنبًا للإدمان، وهذه المرة انتهت بالفعل فور إتمام الجراحة.

• • •

سمَحت لى الأيام الطويلة التى قضيتها طريحة الفراش بأن أستعيد جملة «صعبة على الطبيب.. سهلة على المريض» وأفكّر فيها. فأما أنها صعبة على الطبيب فبالتأكيد هى صعبة عليه بغّض النظر عن قيامه باستخدام المنظار فى إجراء الجراحة من عدمه، فالمسئولية عن حياة إنسان مسئولية كبيرة جدًا يتعرّض لها الجرّاح عدة مرات فى اليوم الواحد، فالصعوبة إذن ملازمة للتخصّص فى الجراحة بشكلٍ عام. وبقدر ما كنت أقدّر جدًا هذه الابتسامة الطيبة التى لم تبارح أبدًا شفتّى جرّاحى البشوش وأطمئن بها وأستقوى، فإننى كنتُ أعجب من قوة أعصابه وهو ينتقل من إجراء جراحة خطيرة لأخرى. إذن مسألة الصعوبة بالنسبة للطبيب مسألة مفروغ منها، أما القول بأن الأمر سهل على المريض فلا أدرى بالضبط من أين جاء بها الطبيب إياه. فالجراحة مؤلمة ومضاعفاتها مؤلمة وآثارها النفسية شديدة الإيلام. مضت علىّ أيام كانت معاناتى الجسدية فى ذروتها وبدا لى أن بعض الآثار الجانبية للجراحة لن يذهب أبدًا، وكان لهذا تأثيره العميق على حالتى النفسية: لا أريد أن أرى أو أكلّم أحدًا أو أرد على اتصال من أحد، لا أتابع الأخبار كعادتى لأنه لا شىء يهّم كمثل عنوان رواية إحسان عبد القدّوس ولا أستمع لثومة الحبيبة فى العاشرة أو الحادية عشرة مساءً على روتانا كلاسيك. عقلى يعمل على مدار الساعة كأنه خليّة نحل: المضاعفات ممتدّة وكثيرة ومعقدة، وحتى تلك المضاعفات التى أخبرنى جرّاحى بأنها قليلة الحدوث لم أنج منها. امتلأتُ رعبًا فبهذا الشكل سوف يتأخّر العلاج الكيماوى ويرتبك بروتوكول العلاج وسيجد الوَحش اللعين منفذًا يدخل به مجدّدًا إلى جسدى بعد أن شمتّ فيه وأنا أراه ذليلًا منكمشًا مقتلعًا من داخلى وحبيسًا فى قنينة زجاجية ينتظر التحليل. لا.. لا توجد أبدًا سهولة فى وجود المرض ولا فى استئصاله، والأشخاص الذين اعتادوا الاعتماد على أنفسهم وخدمة الآخرين يؤلمهم كل الألم أن يتحوّلوا إلى عالة على غيرهم. بعض هذه الهواجس كنت أحتفظ به بينى وبين نفسى، لكن أحيانًا كان يفيض بى الكيل فأصارح بها ابنتى وهى تقيمنى وتقعدنى وتمشّطنى وتتأبط ذراعى فى كل خطوة وتقلبنى على الفراش من جنبٍ إلى جنب أو تدحرجنى عليه بمعنى أصّح مثل البرميل، فكانت تحاول التخفيف علىّ قائلة: هو انتِ متبنيانى أو لاقيانى جنب الجامع؟

• • •

الجراحة كل جراحة صعبة على الطبيب وهى أيضًا صعبة على المريض، وكلما زادت صعوبة الجراحة كان معنى هذا زيادة معاناة المريض وألمه. وفى حالتى فلقد جعلتُ من جملة صعبة على الطبيب سهلة على المريض مدعاةً للتندّر والسخرية، فكنت حين يشتّد علىّ الألم أقول لمَن حولى: هى فعلًا سهلة على المريض، لكن فى بعض الأحيان كان الألم يكتم فمى ويُخرسنى، أما تقاطيع وجهى فكانت تتكفّل بالحكى.
نقلا عن الشروق