القمص يوحنا نصيف
 اشتُهِرَ القدّيس أرسانيوس بقِلّة الكلام، على الرغم أنّه كان مُعَلِّمًا عظيمًا، وهو صاحب المقولة الشهيرة: "كثيرًا ما تكلّمتُ فندمتُ، أمّا عن السكوت فلم أندم أبدًا. كما يعلّمنا سِفر الأمثال أنّ "كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أمّا الضابط شفتيه فعاقل" (أم10: 19). لذلك سنحاول في هذا المقال مناقشة ثلاثة أسئلة:
  1- ما هي أهمّيّة الكلام بوجه عام؟
  2- وما هي خطورة كثرة الكلام؟
  3- وكيف نضبط شفتينا؟
  ثمّ نختم حديثنا ببعض أقوال الآباء الجميلة.
 
أولاً: أهمية الكلام:
 1- به نتبرّر وبه نُدان.. كما علّمنا السيّد المسيح، أنّ "كلّ كلمة بطّالة يتكلّم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين، لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ" (مت12: 36-37).. فعِبارة صغيرة نطق بها العشّار جعلته يَخرُج من الهيكل مُبَرَّرًا، وكلمات قليلة تفوّه بها اللص اليمين، أهّلته أن يكون مع المسيح في الفردوس.
  2- يقوم اللسان بأعمال عظيمة على الرغم من صغر حجمه، مِثل دَفّة صغيرة تقود سفينة كبيرة، فالكلام يقود دفّة الحياة إمّا للسلام أو للنار (يع3).
 
 3- الكلام يكشف عن الكنز الداخلي، أهو صالح أم شرّير.. فإنّ "اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ" (مت12: 35).
 
 4- الكلام له تأثير مؤكَّد على مَن حولنا بالإيجاب أو السلب.. كما أنّ الكلمة لا يمكن أن نزيلها أو نمحوها بعد أن ننطق بها..
 
ثانيًا: خطورة وأضرار كثرة الكلام:
+ كثرة الكلام تكشف عن فراغ داخلي، كما يقول القدّيس مار إسحق السرياني.. وقد تكشف أيضًا عن ضعف روح التلمذة، فالتلميذ يسأل ويسمع أكثر مِمّا يتكلّم. كما أنّ كثرة الكلام تكشف عن ضعف فضيلة إنكار الذات، والرغبة في الاستحواذ على الجوّ المُحيط..
 + كثرة الكلام تجعل الإنسان عُرضَة للخطأ، وقد تستهلك طاقة الإنسان بدون عمل، كما أنّها صِفة غير محبوبة وسط الناس، بل وقد تثير البعض ضدّنا!
 
ثالثًا: كيف نضبط شفتيـنا؟
 + يلزمنا أن نفكّر قليلاً قبل أن نتكلّم أو نردّ.
+ ينبغي أن نُدرِك أنّ الصمت هو لون من التعبير.. فإذا لم يعطنا الرب كلمةً فلنصمت.
  + نحتاج أن نتدرّب على انتقاء الألفاظ النقيّة الهادئة، والمُعبّرة بدقّة عن الفكرة التي بداخلنا.. فما قَلّ ودَلّ أفضل من كلمات كثيرة يتوه أو يتبعثر فيها المعنى!
 + من المهمّ أن ننتبه ونحذر من الاستدراج إلى أحاديث غير بنّاءة.. كما يوصينا الرسول "الْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ وَالسَّخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا، عَالِمًا أَنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَاتٍ، وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ، صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ، صَبُورًا عَلَى الْمَشَقَّاتِ..." (2تي2: 23-24).
 
* من أقوال الآباء:
 + يقول القدّيس يوحنّا الدرَجي: خير للإنسان أن يسقط من مكانٍ عالٍ، ولا يسقط من لسانه.
+ يقول القدّيس مار إسحق السرياني:
 - الذي يُطلِق لسانه على الناس بالجيّد والرديء، لا يؤهَّل لنعمة الله.
 - إن كنتَ لا تقدر أن تسدّ فم المتكلم عن إنسانٍ بالشر، فلا أقل من أن تحفظ فمك من مشاركته في هذا الأمر.
 - إذا أردت أن تتعرّف على رجُل الله، فاستدِل عليه من سكوته.
 - كما أن السحاب يحجب نور الشمس، فإنّ الكلام الكثير يبلبل النفس.
 - إن كنتَ تحبّ التوبة فأحب السكوت، لأنّ بدونه لن تَكمُل التوبة.
 
 + يقول القديس بيمن:
- مَن يُكثر من الاختلاط بالناس، لا يمكنه أن ينجو من النميمة.
 - الكلام من أجل الله جيّد، والصمت من أجل الله جيِّد.
  + يُحكَى عن ثلاثة شيوخ كانت لهم عادة في كلّ سنة أن يزوروا القدّيس أنطونيوس؛ فكان اثنان منهم يسألونه عن الأفكار وعن خلاص نفسيهما، وأمّا الثالث فكان يظلّ صامتًا.. وبعد عِدّة زيارات قال له الطوباوي أنطونيوس: "كلّ هذا الزمان وأنت تحضر عندي وما سألتني عن شيء" أما هو فقال له: "يكفيني النظر إلى وجهك يا أبي"!