القمص يوحنا نصيف
* سؤال:
    أرى أنّ يهوذا قد بدأ خطوات التوبة فعلاً، واتّخذ مواقف قد تكون أكثر جدّيّة من بطرس؛ الذي اقتصرت توبته على البكاء دون الاعتراف، أمّا يهوذا فقد اعترف أنّه سلّم دمًا بريئًا، كما ألقى المال الذي أخذه، إلاّ أنّ الغموض يكمُن في أنّ الروح القدس الذي يؤازر التوبة ويفيض دائمًا على التائبين من روح المحبة الإلهية لم نلحظ له دورًا مع يهوذا.. فهو أخطأ والسيد المسيح عاتبه عندما قال: لماذا جئتَ يا صاحب؟ أبقبلة تُسَلِّم ابن الإنسان؟ فتأثّر بالعتاب، واعترف بخطيئته، وألقى الفضة وتخلّى عنها.. ولكن فجأة نجد أنّه مضى وشنق نفسه. أريد تفسيرًا..

* الجواب:
    في البداية أودّ تأكيد أنّ ما قام به يهوذا هو توبة حقيقيّة، ولكنّه فقط نوع من الندم الشديد وتبكيت الضمير الداخلي مع اليأس، ولم يرقَ لمستوى التوبة التي تنتهي بالرجوع إلى أحضان الله..

    في رأيي أن هناك عدّة أسباب لذلك:
   + السبب الأول:

    أنّ محبّة المال قد حجّرتْ قلبه وامتصّت منه كلّ محبّة للمسيح، فلم يستطع العودة لأحضانه.. فقد صدق الإنجيل عندما علّمنا أنّ "مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1تي6: 10)..

    لذلك فإنّه حتّى تَخَلِّي يهوذا عن الثلاثين من الفضة، جاء نتيجة حزنه ويأسه الكامل، مع إحساسه بضآلة قيمتها الفعليّة؛ مثل شهواتٍ عديدة عندما يَصِل إليها الإنسان يكتشف تفاهتها، بعد أن كانت تَلمَع أمامه!

   + السبب الثاني:
    أنّ قلبه لم يكُن مستقيمًا مع الله منذ البداية، فلم يتأثّر بكلّ ما سمعه ورآه على مدى ثلاث سنوات من المسيح، ولم يختزن خبرات حُبّ وعِشرة شخصيّة مع المسيح طوال هذه المدّة على الرغم من قُربه منه ظاهريًّا.. وبالتالي لم يكُن هناك ما يساعده على العودة.. وخاصةً أنّ الإيمان مات في قلبه فلم يكُن يتوقّع أنّ المسيح سيَغلِب الموت، بل كان يرى -كما كان يرى الكثيرون- أنّ الصليب هو النهاية.

   + السبب الثالث:
    أنّه بسبب الشرّ الذي كان ينمو بداخله يومًا فيومًا عن طريق خطيّة السرقة، فَقَدَ علاقته القويّة بإخوته تلاميذ المسيح، حتّى وإنْ ظلّ في وسطهم بشكل ظاهري حتّى ليلة الصلب.. ولذلك لم يرجع إليهم بعد ندمه، بعكس بطرس الذي رجع إلى إخوته التلاميذ وبالتالي تشدّد وتشجع بهم.. فالرجوع للكنيسة يسند التوبة، ولكن يهوذا عزل نفسه عن الكنيسة من قبل أن يغادرها رسميًّا، وبالتالي لم يكُن واردًا في ذهنه أن يعود إليها ثانيةً.

   + السبب الرابع:
    من الواضح أنّ يهوذا قد انحدر تدريجيًّا في الخطية حتى وصل لخيانة المسيح مع سبق الإصرار وبكامل إرادته، فلم تكن حادثة بيع المسيح بثمن بخس هي سقطة عارضة في حياته، بل كانت امتدادًا طبيعيًّا لمستواه الروحي المتدنّي.. بعكس بطرس الذي كان يحب المسيح بحماس ويريد أن يحميه ويَضَع نفسه عنه، وجاءت خطيّته نتيجة ضعف بشري، وتعثُّر مفاجئ لم يستعدّ له.. فسقط نتيجة اندفاعه وعدم اتكاله على نعمة الله.

    من المهم في النهاية أن أؤكّد على كلامك أنّ الروح القدس يعمل في كلّ أصناف الخطاة لأجل توبتهم، ولكن ليس الكلّ يتوبون.. فقط المتواضعون الذين يلتمسون وجه الله بصدق، هم الذين يتجاوبون مع نداء الروح الداخلي بالتوبة؛ أمّا الذين لا يطلبون الله بصدق، بل لهم أغراضهم الذّاتيّة، فالشيطان يكون هو المسيطر عليهم، مُغرِيًا إيّاهم بأنّه قادر على إشباع شهواتهم، وبالتالي فهو يُقَسّي قلوبهم تمامًا تجاه نداء الروح للتوبة؛ وفي النهاية يضربهم باليأس الكامل، فيسقطون في هوّة الهلاك.

القمص يوحنا نصيف
الخمسين المقدّسة 2024م