د.أحمد الخميسى
دخل الكاتب العجوز إلى حجرته معتمدًا على ذراع ممرضة ورقد على السرير، أثناء نومه تعرض لأزمة قلبية أدت إلى وفاته، لكنه كان قبل أن يموت بساعتين يجلس فى صالة بيته متحدثا الى أحد الصحفيين باستفاضة عن الوضع الثقافى.
سأله الصحفى: «مَن فى اعتقادك أهم أدباء جيلك؟»، نوه الكاتب وهو يتنفس بصعوبة بعدة أسماء، ثم أطبق جفنيه نصف إطباقة، وقال: «ولا ننسى عبدالعال شعبان»، ضيّق الصحفى عينيه، واستفسر مدهوشًا: «شعبان؟!»، أكد الكاتب: «نعم.. لعله أفضل أدباء ذلك الجيل وأبقاهم أثرًا».
لم يكن الكاتب واثقًا من الاسم الذى لفظه لكن حرف العين كان يخايله كلما حاول تذكر ذلك الكاتب. أخيرًا نهض وأنهى اللقاء معزيًا نفسه بأن الصحفى سيكتشف الاسم المقصود، فقد كان الأدباء فى جيله قلة. اتجه إلى حجرته، ورقد على سريره، وعندما استراح طفا الاسم الحقيقى على ذاكرته. «عبدالعاطى وهدان»!، وعاهد نفسه أن يتصل بالصحفى ليصحح الاسم ما إن يفيق من النوم، لكنه لا أفاق ولا صحح.
موت الكاتب كان مفاجأة وبشكل خاص للصحفى الذى أدرك أن القدر أسعده بخبر الوفاة المحزن، فقد كان آخر من سجل حوارا مع الأديب سيصبح بلا شك ضربة صحفية.
صباح اليوم التالى خرجت الجريدة على قرائها بعنوان عريض: «وحدنا ننفرد بحوار اللحظات الأخيرة»، أثار الحوار اهتمامًا واسعًا، لكن الكثيرين نسوا- لسبب ما- وفاة الكاتب، واسترعى انتباههم اسم «عبدالعال شعبان»، تساءلوا مَنْ يكون هذا الذى أشاد به الأديب قبل رحيله بساعات؟
بعد يومين امتلأ سرادق عزاء الأديب بالمفكرين وبعض الشباب ممن تصادف وجودهم بجوار السرادق، وراح عدد من الحضور يميل بأكتافه على مَن بجواره مستفسرًا: «هل سمعت بعبدالعال شعبان؟»، الغالبية كانت ترفع حواجبها بدهشة إشارة إلى أنها لم تسمع بالاسم من قبل. البعض استكبر أن يبدو جاهلًا، وهكذا حين سأل روائى عريض الكتفين ناقدًا قوى البنية عن «شعبان» أجابه على الفور: «عبدالعال شعبان؟! يا رجل! أيعقل أنك لا تعرفه؟!»، أجاب الروائى بنبرة المذنب: «الحق.. لا أعرفه»، فقرعه الناقد على الفور: «اقرأه! اقرأه إذن!» واعتدل ينظر أمامه ويضرب ركبته بقبضته: «عبدالعال شعبان! يا رجل! عبدالعال!».
انتقل رد فعل الناقد همسًا من أذن إلى أذن، ومن صف جالسين إلى صف، وعندما بلغ المقاعد الأخيرة فى مدخل السرادق، علق أحدهم متأسفًا: «لطالما قلت إن تاريخنا بحاجة إلى إعادة كتابة»! من ناحيته أكد الصحفى لمن كانوا يتجمعون وينفضون من حوله أن الكاتب أوصى بتراث عبدالعال ورجاه بعينين دامعتين: «اهتموا بعبدالعال.. حرام أن يضيع تراثه».
لم ينقضِ يومان إلا وكان الناقد الذى لام جاره بقوله: «عبدالعال يا رجل!»، قد بادر إلىع نشر مقال ألقى فيه الضوء على ظروف الأدباء الرواد، ونوه بعبدالعال، قائلا إنه: «يحتاج مقالًا مستقلًا ليس هذا أوانه»، واتسعت دوائر الاهتمام بعبدالعال وبحياته وسر اختفائه طوال تلك السنين، وفى تلك الأثناء اكتشف أحد هواة حفظ المجلات القديمة، مراسل بريد قراء، مجموعة من المقالات والقصص ورواية لم يكتمل نشرها، بتوقيع من حرفين «ع. ش»، وأكد لإحدى الصحف أن تلك الأعمال كلها بقلم عبدالعال، ولم يفته فى تلك الأثناء أن يُعرف بنفسه بصفته شاعرًا له سبعة عشر ديوانًا ستصدر كلها قريبًا. ناقد من العيار الثقيل كتب مقالًا بعنوان «راهب الفكر وجدلية الثقافة» تناول فيه أثر العزلة والوحدة فى إبداع شعبان، وكاتب آخر طرح سؤالًا مهمًا فى مقاله الأسبوعى: «هل أحرق شعبان أفضل أعماله فى نوبة يأس؟»، وكان مقالًا مؤثرًا بالفعل.
خلال ذلك عثر الأرشيفجى على صورة قديمة تضم الأديب الراحل وبعض أصدقائه، تعرف فيها على وجوه الجميع ما عدا شخص واحد أطل بوجه حزين، فأكد أن الحزين المغموم هو عبدالعال، الذى حالت عزة نفسه بينه وبين الشهرة، وما لبث البعض أن قام بتكبير الصورة وعلقها بين صور كبار الأدباء فى قاعات الثقافة. فى نهاية المطاف كان لا بد من الاحتفاء بعبدالعال وأعماله، فأقيم احتفال كبير تحت شعار «أمسية فى محبة شعبان»، ثم استجابت الدولة لنداء ملح بتكريم عبدالعال بجائزة تقديرية، وعلى الفور اكتشف شاعر من إحدى قرى الجنوب أن عبدالعال خاله- بلا جدال- ودلل على ذلك بخطابات وبصورة طفل يلهو مع ماعز قرب ساقية، وحصل الشاعر الجنوبى على درع الجائزة فى حفل مهيب نيابة عن المرحوم خاله، وشكر الحضور بنبرة تأثر و«شيك» الجائزة المالية يرتعش فى يده.
فى خضم الأضواء نسى الجميع صاحب الفضل فى اكتشاف «شعبان»، أى الكاتب العجوز الذى أدلى بآخر حوار صحفى قبل موته بساعتين، ولم يكن ليتصور أن خبر وفاته المحزن قد يغدو مفرحًا، ولا أن زلة لسان قد تخلق كاتبًا كبيرًا، ولا أن الجميع سيوليه ظهره ويمشى وراء «شعبان».
×××