شريف يونس

الصديق مسعد غنيم طرح تصور ملخصه إن العامل الحاسم في النهضة الأوربية كان النهضة العلمية، وإنه "لولا التحدي العلمي، لكانت سلطة الكنيسة على المعرفة قد ظلت بلا منازع إلى حد كبير وربما أدى غياب العلم والمنهج العلمي إلى وأد النهضة في مهدها". وبالمقابل كتب عن الفلسفة فقرة واحدة في مقاله الطويل مضمونها إنها "مهدت الطريق أمام رؤية عالمية أكثر علمانية وفردية"، لكنه ركز بس على فلسفة عصر النهضة.
 
الحقيقة أنا مش عايز "أنتصر" للفلسفة في مواجهة العلم.. ولا عايز أقول حجج جدالية، رغم صحتها في ذاتها، زي إن العلم أصلا هو ابن الفلسفة، أو إن كلام الأستاذ مسعد نفسه يدل على أهمية التوجهات العلمانية والفردانية كتمهيد، وبالتالي كأساس، للنهضة العلمية الاحقة (كوبرنيكوس، جاليليو، كبلر، نيوتن). 
عايز بس أوضح العلاقة بين الاتنين بطريقة تاريخية، مش تقييمية، لأنه في تصوري المقارنة أو تقييم الأوزان النسبية مش الطريقة اللي ينفع نفهم بيها نشأة الحداثة ولا حتى طبيعتها. 
 
بصفة عامة، مكانة أي نشاط إنساني في أي جماعة إنسانية بيحددها الطبيعة العامة للجماعة دي، اللي هي بنت ظروفها الجغرافية وتطوراتها التاريخية على مختلف الأصعدة، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها. 
 
أما لو حددنا الكلام في الجانب الفكري، فبرضو الرؤية العامة للمجتمع هي اللي بتحدد مكانة (تأثير) أي نشاط فكري نوعي، زي العلم، والعلوم المختلفة. لكن فيه مجالات هي المجالات الكبرى أو الأشمل اللي بتلخص طبيعة عصر وبتوجهه، وهي مكونات ما يسميه هيجل الروح المطلق: الفن والدين والفلسفة، وبروز واحد منها هو ابن التطورات الشاملة في المجتمع. 
 
المجال الأعظم دا في الحداثة هو الفلسفة. وفي الحقيقة الفلسفة الغربية الحديثة مش بس دفعت للعلمانية والفردية، لأ، دي كمان حطت أسس العلم الحديث نفسه.
اللي بيميز العلم الحديث إنه بقى مرتبط بالأهداف الإنسانية العملية، وإن المعرفة عموما، مش بس العلم، بقت "أرضية"، يعني مش محتاجة تصورات عن الغيب علشان تشتغل. والفلسفة هي اللي بادرت واقعيا لتحديد الطبيعة دي للعلم والمعرفة، قبل ما يبقى فيه أي اكتشافات كبرى. 
 
قبل العصر الحديث، كان فيه معرفة علمية، لكن سواء علماء/فلاسفة اليونان أو علماء جامعة الإسكندرية القديمة أو علماء العصر الإسلامي كان نشاطهم في معظم المجالات (ما عدا الطب) مفصول عن الممارسات الاجتماعية، في الإنتاج وغيره. 
 
الدعوة لجعل المعرفة في خدمة المجتمع واستعمال المنهج التجريبي ظهرت في الفلسفة على إيد فرانسيس بيكون في كتابه الأشهر الصادر عام 1620، وقبل انفصال العلم عن الفلسفة كان كل من ليبنتز و ديكارت فلاسفة وعلماء رياضيات كبار. وعلشان كدا الكتاب اللي غيَّر العالم بتاع نيوتن عنوانه "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، امتدادا لواقع إن الرياضيات كانت تاريخيا جزء من الفلسفة من أيام فيثاجورس. وكانط نفسه كان له نظريات علمية في الفلك.
كمان العلم تطور في سياق مشكلات الرؤى الكلية للعالم في عصره.
 
علشان كدا كوبرنيكوس حط نظريته عن دوران الكواكب وفي ذهنه تأثير أفكاره على تصور الكون السائد مسيحيا (نقلا عن علماء العصرين اليوناني والروماني)، وقال إن الرب هو زي صانع الساعات، حط نظام للكون علشان يمشي بشكل تلقائي، وبالتالي فيه نظام نقدر نكتشفه، ودا موقف فلسفي وديني. جاليليو كمان كان له تنظير فلسفي حوالين المنهج العلمي، مش مجرد تجارب ونظريات علمية. لأن دي كانت مرحلة التأسيس، والتأسيس لازم يكون فكري، مش مجرد إثبات فائدة عملية. 
 
العلم انفصل عن الفلسفة لما استقرت التصورات الميكانيكية عن الكون مع نيوتن، فبقى المنهج اللي نشأ فلسفيا في صراع على تحديد الرؤية الكلية للجماعة (الأوربية وقتها) من المسلمات. وامتدت لتصورات طبيعية في علوم الكيمياء والأحياء وغيرها، وبعد كدا امتدت للمعارف الإنسانية، فظهرت علوم الاقتصاد ثم الاجتماع وعلم النفس التجريبي تباعا. وحتى التاريخ اقتبس وسائل تحقيق الوقائع، وطريقة التدليل على الرؤى التاريخية من الروح العامة الجديدة دي. وفي الظروف دي بقو الناس اللي جمعو بين العلم والفلسفة متخصصين أساسا في فلسفة العلم، اللي انفصلت كمجال مع انفصال العلم. 
 
علشان كدا، في حالة وجود صراع بين العلم والأصولية (الحالة اللي عندنا)، العلم مش هو قاطرة الصراع دا، مش بس علشان الإضافة للعلم دلوقت بقت أساسا في إيدين الدول الكبرى، علشان الإمكانيات الكتير اللي بقى محتاجها (تليسكوبات الفضاء مثلا)، وبالتالي الاكتشافات العلمية المبهرة مش بتطلع عادة من بلاد العالم النامي،  لكن أساسا علشان مكانة العلم في الجماعة بتحددها، زي ما قلت في البداية، الرؤية العامة للمجتمع، اللي هي بالتعريف مش مسألة علمية تجريبية. 
 
دا مش معناه إن مفيش أهمية للعلم الطبيعي الحديث، بالعكس، لكن أهميته هي في كونه عنصر في تكوين ونشر الرؤية الكلية دي.