نيفين مسعد
قبل أن أتلّقى أول جلسة من جلسات العلاج الكيماوي المؤلم جلستُ أمام طبيب الأورام ليخبرني ببعض النصائح والإرشادات التي يجب عليّ الالتزام بها.
حذّرني من أن تناوُل أي مشروب بارد بعد جلسة الكيماوي سيصيبني بما يشبه الصدمة الكهربائية الخفيفة، ونسى أن يقول لي إن المسألة لا تنحصر في مجرد تناوُل المشروبات الباردة، لكن مجرد الإمساك بمقبض الحنفية أو إخراج علبة جبن من الثلاجة أو نَشر قطعة مبللّة من الملابس، كل هذا يمكن أن يصيبني بتنميل-صحيح مؤقّت لكنه مزعج- في أطراف اليدين. لاحقًا اكتشفتُ هذه الحقيقة بنفسي وتعوّدت أن أتعامل بحرص مع كل الأشياء حتى يزول أثر الجلسة بعد بضعة أيام.
حذّرني أيضًا من الإصابة بالجفاف وأوصاني بأن أجعل أوردتي رطبة دائمًا بشُرب كميات كبيرة من السوائل. لكنه أبدًا لم يذكر لي حرفًا واحدًا عن طعم النحاس الذي وجدته فجأة يملأ فمي بعد أول جلسة وصار يلازمني طوال فترة العلاج الكيماوي. في البداية كنُت عاجزة عن تقديم تشخيص دقيق لهذا الطَعم السخيف الذي ذقته لأول مرة في حياتي، وكيف لي بتشخيصه ولم أكن أعرف أصلًا أن للنحاس طَعمًا وأننا قد نضطر لتذوّقه؟. كلمة طَعم في فهمي كما أظن أنها في فَهم الناس جميعًا تشير إلى مذاقات مختلفة للأطعمة، وفي أيامنا هذه تتفنّن محلات الأكل في إضفاء مذاقات مختلفة على كل شئ تقريبًا لاجتذاب الشباب الذي يجري دائمًا وراء كل ما هو جديد، فهناك مذاقات للآيس كريم والكنافة والقهوة والكريب، هذه المذاقات قد تكون بطَعم النيوتيلا أو البندق أو الكراميل أو النعناع.. إلخ، وجميعها أشياء لا يتعامل معها أبناء جيلي الذين يصنّفون في عِداد المحافظين غذائيًا، فنحن نأكل ما وجدنا عليه آباؤنا.
هذا إذن معروف ومفهوم وشائع. كما أن من المفهوم أن كلمة طَعم قد يكون لها معناها المجازي الذي نطلقه على التجارب المختلفة، فنجد مثلًا أن أم كلثوم تتغنّى بكلمات بيرم التونسي قائلة "عن العشّاق سألوني وأنا في العشق لا أفهم، سمعناهم يقولوا العشق حلو وآخره علقم"، في تصوير بليغ للمعاناة في الحب التي يكابدها العشّاق. ونجد أن عبد الحليم حافظ يتغنّى بكلمات حسين السيد وقد فاجأه أن شادية معبودة الجماهير شخصيًا تبادله حبًا بحب فيقول "حاجة غريبة، حاجة غريبة الدنيا لها طَعم جديد.. حاجة غريبة، حاجة غريبة أنا حاسس إننا يوم عيد". هذه هي كل معلوماتنا عن الطَعم، أما طَعم النحاس هذا فلا يعرفه إلا من جرّبه.
• • •
جزء من شعور الأشخاص -الذين يهاجمهم الوَحش- بالتغيير ينبع من هذا الطَعم النحاسي الكريه الذي يلازمهم ويملأ أفواههم لأنه يعكّر مزاجهم ويذكّرهم في كل لحظة بأنه يوجد شئ جديد عليهم وأنهم مجبرون على التأقلم معه. ألذّ الأطعمة يفقد إغراءه ولا يثير في النفس أي شهية، ولعل الواحد منّا يفضّل أن يحتفظ بالطَعم القديم لأكلاته المحببّة حتى إذا قُدّر له أن يعود إليها وجدها كما عرفها، أما أن يختلط طَعمها بالنحاس فلا. نصحتني إحدى الصديقات بالتحايل على الطَعم النحاسي بإعداد خلطة من العسل وتوليفة متنوّعة ودقيقة جدًا من حبوب اللقاح والبركة وجنين القمح والبروبليس (ولم أكن قد سمعت بالبروبليس هذا من قبل ثم عرفت إنه مادة يستخدمها النحل لتغطية خلاياه)، لكن لأن التوليفة كانت معقّدة للغاية تكاسَلت في إعدادها ولم أعمل بالنصيحة. وتلك مناسبة للقول إن عددًا لا أول له ولا آخر من النصائح سيحاصر الأشخاص الذين هاجمهم الوَحش، ومعظم هذه النصائح التي يسديها أصحاب مخلصون لا أساس له من الصحة.
فعندما راح طبيب الأورام يسرد لي قائمة الممنوعات أثناء فترة العلاج الكيماوي، بادرته بالقول وكلي ثقة بإنني أعلم جيدًا أن السُكريات من أهم الممنوعات لأنها تنشّط الخلايا الخبيثة، فما كان منه إلا أن ابتسم، وهو قليلًا جدًا ما يبتسم، وقال لي بالنص "لا مؤاخذة ده اللي بيسموه تحشيشة، كبد البني آدم لابد أن يأخذ حاجته من السكّر فإن قمتِ بتعطيشه فلن تفعلي إلا إجهاده لأنه سيضطر إلى استخراج السكر من الأطعمة حتى إن كانت غير سكرّية"، لكنه استدرك بعدها قائلًا "هذه بالتأكيد ليست دعوة للإفراط في تناوُل السكريات لكنها مجرد محاولة لتصحيح معلومة غير دقيقة".
أما النصيحة التي أسدتها إلىّ صديقة أخرى بالامتناع عن تناوُل الحمضيات كالبرتقال والليمون لأنها تزيد في وطأة الإحساس بطعم النحاس في الفم، فعندما سمع بها الطبيب رجع بظهره إلى الوراء قائلًا إنها معلومة لا تستحق منه الردّ عليها أصلًا. وهكذا كان من أهم الدروس التي تعلّمتها من محنة مرضي ألا أستمع إلا للفريق الطبّي المعالج، والأهم ألا أقارن حالتي بأي حالة أخرى لأن هذا الوَحش له ألف وجه ووجه، وكل جسد يتعامل معه بشكلٍ مختلف عن الآخر. فقط أتوّكل على الله وأضع ثقتي في الجرّاح وطبيب الأورام وبعد ذلك ليكن ما يكون. وأظّن أن هذا جنّبني الحيرة والارتباك وجعلني أضع كل تركيزي في العلاج.
• • •
مازلتُ لم أتعوّد على طَعم النحاس في فمي ولا أريد أبدًا أن أعتاد عليه، وها أنذا أعدّ الأيام التي تفصلني عن نهاية بروتوكول العلاج الكيماوي حتى أتخلّص منه قريبًا بإذن الله تعالى، ومازال هناك ارتباط كبير بين هذا الطَعم واعتلال مزاجي دون سبب ظاهر كما يقول لي الأهل بين وقتٍ وآخر، لا يعلمون أن النحاس يضفي مرارة حتى على الكلام.
لكن من وجهة نظر أخرى وعلى سبيل التمسّك بروحي الفرفوشة قدر الإمكان، عندما سألني ابني قبل عدّة أيام: أجيب لك لاتيه بطَعم إيه يا ماما؟ أجبته من وراء قلبي: عاوزة لاتيه بطَعم النحاس.
نقلا عن الشروق