د. عصام عبدالفتاح
يعد العقاب الجماعى أحد أبشع ألوان العقاب التى عرفها التاريخ على مر العصور. ولم تخلُ حضارة من ممارسته حتى يومنا هذا. يرد بعض المؤرخين أسلوب العقاب الجماعى إلى العصر الإغريقى حيث كان مرتبطًا بالجريمة السياسية والخيانة.
فعندما تقع الجريمة ينعقد مجلس المواطنين ليقرر «الكاتسكاف» أى عقوبة التنكيل بفاعل الجريمة والتنكيل، لا يعنى فقط إدانته وإعدامه، وإنما يمتد إلى تدمير منزله وحرق ممتلكاته كلها كما يطال العقاب أسرته وخلفه ونسله بنفيهم إلى أقصى أقاصى الأرض. بل إن العقاب وفقًا للمؤرخ الأمريكى والتر روبرت كونور كان يصل إلى حد إخراج عظام أسلاف المجرم من مدافنهم لإلقائها خارج المدينة.
انتقلت ظاهرة العقاب الجماعى من العصور القديمة إلى العصر الوسيط، ولم تختفِ فى عصرنا الحاضر رغم تقدم البشرية فى الأفكار والمعتقدات. فعلى الرغم من انتشار الأفكار السامية مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان... إلخ، لاتزال فكرة العقاب الجماعى منهجًا تتبعه أكثر الدول تقدمًا وتمارسه بحجة أنه فى نظرها يحقق ضربًا من العدالة على الرغم من كونه جريمة شنعاء تؤثمها القوانين الدولية والداخلية على السواء. فالقانون الدولى يصف العقاب الجماعى بالفعل الهمجى ويصنفه بين جرائم الحرب.
كما أن المبدأ الأساسى الذى تتأسس عليه فلسفة العقوبة هو مبدأ «المسؤولية الشخصية» لفاعل الجريمة، ويقضى بألا يعاقب شخص عن جريمة ارتكبها غيره حتى لو كان من أقرب أقربائه. لكن الواقع الدولى يشهد بأن العقل الإنسانى لم يتمكن حتى الآن من القضاء التام على النزعات الدوجمائية المتطرفة الكامنة لدى فئات عريضة من البشر.
ويتبدى العقاب الجماعى فى أفظع صوره فى الإبادة الجماعية التى تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطينى، إذ تقمص اليمين الدينى الحاكم فيها طبائع جلاده التاريخى النازى وتفوق عليه فى ممارسة القتل والفتك بضحاياه، نساء وشيوخًا وشبابًا وأطفالًا. واستخدم فى إبادته للفلسطينيين كل ما ابتكرته التكنولوجيا من أسلحة ليدمر بها منازلهم ويسوى الأرض بمستشفياتهم ومدارسهم.
وعلى الجانب الآخر، نرى الشعب الفلسطينى صامدًا لا يهاب الموت، وعازمًا على المقاومة والاستبسال. ولكن تُرى ما هى مآلات المقاومة فى هذا الصراع غير المتكافئ لشعب يرسف تحت أبشع استعمار عرفته البشرية؟
يحاول الأستاذ نبيل عبدالفتاح الإجابة على هذا السؤال الصعب فى كتابه المهم «المقاومة والحرية». إذ يفجر فيه أسئلة جذرية تدور حول الإشكالية الجوهرية للأزمة، وهى الإشكالية التى يعبر عنها «بثنائية المقاومة والحرية». المقاومة ترمز إلى الشعب الفلسطينى، وهى التى فاقت فى مداها توقعات المحتل الصهيونى، أما الحرية فهى متعددة الدلالات، وفيها تكمن جذور الأزمة.
يفكك «عبدالفتاح» الأزمة الفلسطينية ويرى فيها مرآة حية لأزمة العالم العربى وإخفاقاته فى مواجهة إسرائيل. ولئن تعددت السرديات المتداولة بين الباحثين على تنوع أيديولوجياتهم حول الأزمة فإن التشخيص الدقيق لها يحتم على المحلل اتباع منهج فينومينولوجى يفكك به عناصرها وهو ما يفعله ببراعة «عبدالفتاح» فى كتابه.
قامت إسرائيل، وهى الطرف الأول للأزمة ومصدرها، على هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وهيمنت على حكوماتها النزعة الدينية الصهيونية، فانتهجت سياسة وحشية ضد الفلسطينيين. بيد أن ثمة حقيقة لا مراء فيها، وهى أن نظامها البرلمانى يكرس الحريات العامة والفردية، كما يزدهر فيها العلم والتكنولوجيا، وهى تتزود بأحدث الأسلحة وأكثرها تطورًا.
وعلى الجانب الآخر يقاوم الفلسطينيون بشجاعة منقطعة النظير المحتل الصهيونى، لكنهم فيما بينهم منقسمون ومختلفون بين تيارات دينية وغير دينية، أما العالم العربى من حولهم فقد خاض حروبًا مريرة مع إسرائيل حتى تمكن الجيش المصرى من تحقيق نصر أكتوبر 73 عليها واسترداد أراضيه. ولكن لاتزال فى هذا العالم، كما يرى الكاتب، بقايا جغرافيا الهزيمة التى خلفها العهد الكولونيالى.
ودول كثيرة فيه تعانى من اختلالات ومشاكل متراكمة كشفها الصراع مع إسرائيل مثل تخلف أنظمتها العلمية والتعليمية والمعرفية وسيطرة العقل النقلى على ذهنيتها وافتقاد شعوبها إلى الحرية والديمقراطية، وهيمنة الاستبداد على أنظمتها السياسية، ودخولها فى صراعات وحروب لا نهاية لها مع طوائف الإرهاب الدينى. فلا مناص فى هذه المواجهة المصيرية من الحرية والتسلح بالعقل والمعرفة.
نقلا عن المصرى اليوم