نادر نور الدين محمد
منذ نحو خمس سنوات أقرت منظمة الأغذية والزراعة بأن التربة هى مرادف الغذاء، وأنه لا غذاء بدون ترب زراعية. ومن قبل ذلك ظهر تعبير أن المياه هى الحياة والتحضر والصناعة والزراعة والحفاظ على البيئة، بل ومصدر للطاقة، وظهرت منظومة ثلاثية الماء والغذاء والطاقة وارتباطها الوثيق قبل أن ينضم إليها تغيرات المناخ والزيادة السكانية.
ولأن مصر دولة شح مائى ويبلغ نصيب الفرد فيها من المياه العذبة المتجددة 600 م3 فى السنة، وتصل إلى 800 م3 فى السنة، بعد إضافة 21 مليار متر مكعب من مياه المصارف نعيد استخدامها للتغلب على الفقر المائى، فهناك تشدد كبير تجاه الزراعات عالية الاستهلاك للمياه، وأهمها الأرز وقصب السكر والموز. وعلى الرغم من أهمية قصب السكر لسكان الصعيد محدود الأراضى الزراعية، وأيضا فرص العمل، خاصة أن إنتاج السكر للفدان من القصب يبلغ مرتين وربع قدر إنتاج البنجر من السكر، وينتج 18 سلعة إضافية تستوعب عمالة كثيرة فى الصعيد، وأن فدان القصب فى المنيا يستهلك 10 آلاف م3 من المياه سنويًا، مقارنة بفدان البنجر الذى يستهلك نحو 5 آلاف م3، وبالتالى فالفارق متساوٍ بالتقريب، بل للقصب أهمية نظرا لما يوفره من فرص عمل ومنتجات مهمة، كما أن التوسع فى زراعة بنجر السكر فى أراضى الدلتا الخصبة وبلوغها 660 ألف فدان كان على حساب حاصلات استراتيجية، ومنها الفول والعدس والحمص، وربما أيضًا القمح والبرسيم التى كانت أكثر قبل دخول زراعات البنجر إلى مصر.
فمع بدايات شهر مايو من كل عام تبدأ زراعات الأرز فى أراضى الدلتا، وتبدأ معها وزارة الرى فى التشديد على الالتزام بالمساحات المقررة من الوزارة دون تجاوز، والتى تحددها بنحو 1.1 مليون فدان فقط، على الرغم من أن اكتفاءنا الذاتى من الأرز يتطلب زراعة مليون ونصف المليون فدان من الأرز. فأراضى الدلتا المصرية مجاورة للبحر المتوسط الذى ينشع عليها كميات هائلة من الأملاح سنويًا وعلى مياهها الجوفية السطحية، والتى بدورها تنشع وتملح الأراضى الخصبة التى تعلوها. وكان فيضان النيل قبل عام 1961 كفيلًا بغسيل هذه التراكمات من أملاح البحر، ومعها متبقيات المبيدات والأسمدة والملوثات، وانتهى هذا الأمر حاليًا، وأصبحت زراعات الأرز هى بديل الفيضان والمحصول الوحيد الذى يغسل التربة سنويًا ويحافظ على خصوبتها وإنتاجيتها العالية ويمنع تدهورها وتصحرها، حيث تعتبر الدلتا هى رأس مال مصر الزراعية والسكانية بمساحة نحو 4.5 مليون فدان، بينما لا تتجاوز كل أراضى الصعيد السمراء نحو 2 مليون فدان فى شريط ضيق على جانبى النيل. وتضم الدلتا 8 محافظات، ويسكنها 55% من سكان مصر، وتنتج 70% من الإنتاج الزراعى، وتتميز بقربها من جميع الموانئ على البحر المتوسط، كما أن حاصلتها استراتيجية، سواء محاصيل أو خضروات أو فاكهة أو أعلاف، ومضمونة التسويق لوقوعها فى التكدس السكانى.
والأرز هو محصول الحبوب الرئيس الذى يعطى أربعة أطنان للفدان، مقارنة بالقمح الذى لا يتجاوز 2.5 طن للفدان، والذرة 3 أطنان، ويمكث أربعة أشهر فقط فى التربة، كما أن سعر كيلو الأرز يصل إلى 30 جنيهًا مقارنة بسعر كيلو جرام القمح 13 جنيهًا، والذرة 10 جنيهات، وبالتالى فهو يدر دخلًا أكبر للفلاح يخرجه قليلًا من الفقر ويحافظ على أرضة ويغسلها سنويًا، ولا يزيد استهلاك فدان الأرز عن 5 آلاف م3 فى السنة، أى ضعف استهلاك القمح الشتوى، ومرة ونصف قدر الذرة، ولكنه يعطى ضعف محصول القمح وثلاثة أضعافه نقدا، وبالتالى فمن حقه أن يستهلك ضعف المياه التى يستهلكها القمح. يضاف إلى ذلك أن هناك دراسة للبنك الدولى نشرت عام 2010 عن أراضى الدلتا، وأشارت إلى أن 46% من أراضى شمال الدلتا قد أصبحت أراضى ملحية قليلة الإنتاجية، وأن 37% من أراضى وسط الدلتا أصبحت أيضا ملحية، وأن 24% من أراضى جنوب الدلتا البعيدة عن البحر المتوسط أصبحت ملحية بمتوسط عام 37% لكل أراضى الدلتا، وقاربت على الخروج عن إنتاجيتها الزراعية، ثم تدهورها لتزيد الفجوة الغذائية عمقًا. وبالتالى وطبقا لهذه الدراسة يجب ألا تقل مساحات زراعات الأرز عن 37% من إجمالى مساحة أراضى الدلتا، أى 1.6 مليون فدان سنويًا، لأنه المحصول الوحيد الذى يغسل هذه الأملاح ويمنع تراكمها، بالإضافة إلى عائده المجزى. هناك أيضًا أن سعر طن الأرز عالميًا يزيد عن ثلاثة أمثال سعر طن القمح، وبالتالى يمثل ضغطًا على الخزانة العامة للدولة فى رصيدها الدولارى، وسبق لى أن اختلفت مع وزير رى أسبق حين قال إن استيراد الأرز أرخص من زراعته فى مصر، لأنه نظر إلى الأمر من ناحية المياه فقط، وليس من ناحية الحفاظ على الترب الزراعية الخصبة وعلى الأمن الغذائى، وأوضحت له أن من يزرع الأرز قصير الحبة المعتاد استهلاكه فى مصر عدد قليل من دول العالم، ومنها الهند، والتى أوقفت تصديره منذ عامين، ثم فيتنام، ومساحات قليلة فى الصين، ومثلها فى أمريكا، وأنه بأسعار الأيام الحالية فإن استيراد طن الأرز بسعر ألف دولار، أى خمسون ألف جنيه مصري، ويصاف إليها مصاريف النقل البحرى والتفريغ والنقل البرى للتوزيع وفتح اعتمادات بنكية ورسوم إدارية وغيرها، فهذا يعنى أن كيلو جرام الأرز المستورد لن يصل حاليًا للمستهلك بأقل من 75 جنيهًا للكيلو جرام!.
وفى النهاية نقول إن الحفاظ على وترشيد استخدامات المياه لا يكون على حساب تملح وتدهور الترب الزراعية المصرية، ولا على حساب الأمن الغذائى، ولا على حساب زيادة الفجوة الغذائية، ولا تقليل دخل المزارع، لأن المياه هنا تذهب إلى مكانها الصحيح، كما أن أغلب زراعات الأرز تروى بمياه الصرف الزراعى والزائد من مياه الأرز يذهب إلى المصارف ويعاد استخدامه مرات عديدة، وأن العالم كله أقلع عن الرى الشحيح بالتنقيط وغيره لما يسببه من تملح وبوار الأرض الزراعية، واستبدلوه بالرى الغزير المحورى بالبيفوت المماثل للرى بالغمر ويفوقه أحيانًا، وبالتالى ينبغى التنسيق والتفاهم بين وزارتى الزراعة والرى للوصول إلى المفهوم الاقتصادى والزراعى والغذائى والخصوبى لزراعات الأرز فى الدلتا.
الاستدامة فى الزراعة تعنى الحصول على أعلى محصول ممكن من التربة، مع الحفاظ على سلامتها وخصوبتها للأجيال القادمة، وكما تسلمناها منتجة لا ينبغى أن نسلمها قاحلة.
*كلية الزراعة جامعة القاهرة
نقلا عن المصرى اليوم