أحمد الجمال
نعم.. موجوعون، فالوجع أشمل وأعم وأعمق من الألم.. وثبت أن كل من هو إنسان فى مختلف بقاع الأرض موجوع معنا، مما يفعله الصهاينة وتدعمه حكومات الغرب، ورغم الوجع إلا أن التفاؤل واجب لأنه لن يصح إلا الصحيح، ولن يحق إلا الحق لأنها سنة الله فى خلقه مهما طال المدى، ولذا فربما جاز لنا بذلك التفاؤل أن نتبادل التهانى بالعيد.. فكل عام والجميع بخير.
وبمناسبة العيد.. وفى ظل الظروف الصعبة أتذكر الحوار الذى أقامه الشاعر أبوالطيب المتنبى مع العيد.. ولذلك الحوار قصة كانت مصر طرفًا فيها.. إذ ارتحل الشاعر من سوريا إلى مصر، وقد اعتقد أنه سينال من حاكمها آنذاك أكثر مما ناله من حكام فى بلاد أقل ثراء من مصر، وكان منهم سيف الدولة الحمدانى وابن العميد وابن بويه الديلمى.. ووصل المتنبى مصر وبدأ فى مدح حاكمها آنذاك، وهو كافور الإخشيدى، الذى امتنع تمامًا عن بذل أى درهم للمتنبى، وكانت حجته أنه رغم ثراء مصر ورغم وجود الأموال وكثرة النعم إلا أنه كحاكم يعتبر أن هذه الثروات مال أيتام، وهو- أى كافور- وصى عليهم وعلى أموالهم التى يأكل نار جهنم فى بطنه من يأكلها.. وبالطبع فإن نار الحسرة وألم الخذلان وإحباط الأمل فى هبة ثمينة أكلت جوف ونفس المتنبى، فخرج من مصر محسورًا مخذولًا ينشد النجاة بجلده، وتحولت قصائده من مدح كافور إلى هجائه بأبشع وأبلغ فنون شعر الهجاء.. وجاء مطلع قصيدته وكأنه حوار مع العيد، الذى يبدو أنه حلّ عليه وعلى أسرته بعد خذلانه، وربما كان متعشمًا أن يحصل من كافور- حاكم مصر- ما يغنيه ويجعله يعيش عيدًا سعيدًا مترفًا هو وأسرته، وفى البيت الأول يقول المتنبى:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد
أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيداً دونها بيد
لولا العلا لم تجب بى ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
ثم يقول:
لم يترك الدّهر من قلبى ولا كبدى
شيئاً تتيّمه عين ولا جيد
ثم ينتقل بعد أبيات عديدة ليهاجم كافور مباشرة ويتهمه بأنه عبد سوء قتل سيده الإخشيدى:
أكلّما اغتال عبد السّوء سيّده
أو خانه فله فى مصر تمهيد
صار الخصىّ إمام الآبقين بها
فالحرّ مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
ويصل المتنبى إلى ذروة قدحه وهجائه لكافور:
العبد ليس لحرٍّ صالحٍ بأخٍ
لو أنّه فى ثياب الحرّ مولود
لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه
إنّ العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبنى أحيا إلى زمنٍ
يسىء بى فيه عبد وهو محمود
ولا توهّمت أنّ النّاس قد فقدوا
وأنّ مثل أبى البيضاء موجود
ثم يضاعف المتنبى جرعة الهجاء:
من علّم الأسوَد المخصىّ مكرمةً
أقومه البيض أم آباؤه الصّيد
أم أذنه فى يد النّخّاس داميةً
أم قدره وهو بالفلسين مردود
أولى اللّئام كويفير بمعذرةٍ
فى كلّ لؤمٍ وبعض العذر تفنيد
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السّود؟
تلك أبيات من حوار المتنبى مع العيد، وأعلم أن كثيرٍا من كلماتها تحتاج إلى شرح، بل تحتاج إلى تشكيل للحروف، ومعلوم أن المجال لا يتسع لذلك فى هذه المساحة المحدودة، ولذلك أجد لزامًا على الكاتب أن يحفز قارئ سطوره للاطلاع، وهنا أحيل من لديه الرغبة والوقت لقراءة شروحات شعر المتنبى إلى كتب تخصصت فى ذلك، وعلى رأسها كتاب:
«التبيان فى شرح الديوان» ومؤلفه هو أبوالبقاء العكبرى، وكتاب شرح ديوان المتنبى لعبد الرحمن البرقوقى، وهناك كتب أخرى فى المجال نفسه، وأظنها جميعًا ممتعة لمن يهوى ذلك اللون من المعرفة.. وكل عام وأنتم بخير.
نقلا عن المصرى اليوم