د.أحمد الخميسي
عاش حياة قصيرة نسبيا لم تزد عن اثنين وأربعين عاما ما بين1962، و2008.
وقد عرفت وسيم دائما بقلبي من دون أن أمعن النظر إلي شيء آخر. عرفته مفعما بالحيوية وحب الناس والشجاعة التي تستهين بكل شيء، واطلاق الضحكات، وبسمة لا تفارقه تتودد إلى الآخرين وتقول لك : ثق في الحياة وعشها كما هي، لأنها أقصر من أن نحاول تغييرها.
اختطفه الموت في عشرين يونيو 2008 بحادثة قاسية وغير معتادة في موسكو، فبدا لي أن يدا فظة امتدت إلى وجه الحياة فجأة ونزعت منه البسمة إلى الأبد، فأمست الدنيا كئيبة في صمت.
كان فارق السن بيني وبينه - نحو خمسة عشر عاما - يجعله يقع في منزلة ما بين صديقي وابني في السنوات الطوال التي جمعتنا في موسكو، في صقيعها وفي ربيعها. كنت أوقظه بالتليفون في منتصف الليل، أقول له: " هناك مصري في مطار موسكو لا يجد من يستقبله"، فيثب صوته دافئا ودرجة الحرارة تحت العشرين يصيح: "يا نهار أبيض.
طبعا لازم نروح له". ولم يكن يسأل حتى من هذا المصري الذي سنقطع لأجله في الفجر والزمهرير مسافة طويلة بسيارته " لادا". يستقبل القادم معي، يحمل حقائبه، ويبقى معه حتي يوفر له مسكنا وطعاما، وقبل أن يودعه يغمزه بحفنة روبلات للأيام الأولى.
أقول له: " فلان مريض"، فلا ينتبه لاسم المريض، لأن ضميره كان يلتقط كلمة"مريض" فقط ، يهبط ويشتري فاكهة وزهورا ويتجه بها إلي أبعد مستشفى في موسكو وحين يعود يضحك قائلا:" تبين أنني أعرفه "! أنهي في موسكو ماجستير صحافة، وربطته بروسيا قصة حب فزواج من" ناتاشا"، ثم انفصال، ثم حب من جديد وزواج مرة أخري.
لكن مصر لم تكن تفارقه، ولا لحظة، في لفظه الكلام، ونكاته، وأحلامه، وفي اعتزازه بأنه سمي علي اسم الضابط "وسيم خالد" الذي شارك في الكفاح ضد الانجليز قبل الثورة، واعتزازه بأن والده صلاح حسين الذي استشهد في كمشيش دفاعا عن الفلاحين عام 1966.
وكان يصيح بصوته الأجش الطيب كلما لاحت فرصة عمل لا يستريح إليها: " لا يا أحمد، ما أقدرش، أنا ابن صلاح حسين"! الشعور بكرامة أسرته، وغضبه في النقاش السياسي، لم يجفف عنده ينبوع الفرح والضحك.
جاءني مرة يحكي لي أنه تعرف إلي فتاة روسية بالمصادفة عبر الهاتف، واتفق معها أن يلتقي بها تحت تمثال يتوسط ميدان" بوشكين" المعروف، ووصف نفسه لها على أنه طويل أشقر وذو عينين زرقاوين! وكان في واقع الأمر قصيرا أسمر أصلع بدينا قليلا.
ذهب إلي الموعد وظل يدور حولها من دون أن تهبط ببصرها إليه لأنها تنتظر الطويل الأشقر! حتى ناداها باسمها وصاح فيها غارقا في الضحك: " أنا وسيم"! لكن هذا الانسان المحب للفرح والحياة والصخب كان يبدو إنسانا آخر تماما داخل مظاهرة في القاهرة تنديدا بعدوان إسرائيلي أو دفاعا عن الوحدة الوطنية في مواجهة الطائفية، وكان وجهه يبدو شعلة من غضب يتغذي بتاريخ طويل.
عاش حياته القصيرة مثل ضحكة على وجه الحياة الجهمة، قلقا في الريح بين القاهرة وموسكو، الريح التي تعصف بالبشر بلغتين ومدينتين، وعالمين، وهو في قلبها لا يفقد نخوته ، ولا ضحكته، ولا أمله، إلى أن غفت الريح بالموت المفاجئ من قبل أن يجد نفسه ويحقق احلامه بالكامل، وبقي وجها من الوجوه العزيزة التي تخفق في الريح، ولا ينقطع أثرها في القلب والنفس.