كمال زاخر
الشأن التنظيمى متروك لأصحابه
وللقيادة المسئولة والتى تملك تطويره
وتعديله بما يتفق وصالح الجماعة.
من أين جاءت الكنيسة بهرمها الإكليروسى، فالذى نطالعه فى كتب القوانين الكنسية المختلفة بامتداد تاريخها، هو توصيف للوضع القائم وقت كتابة تلك القوانين، سواء ما عرف بقوانين الرسل، او الدسقولية أو تلك المنسوبة لأسماء بعينها، خاصة فى القرون الأولى، وسوف نعود لتناولها فى طرح مستقل، وفى كل الأحوال لم تكن الكنيسة فى نشأتها وفى نموها وفى ترتيبها الهيكلى بعيدة عن مجالها العام.
فى تقديرى أنها اقتبست هرمها الإكليروسى من مصدرين،
الأول من العهد القديم وتحديداً عند موسى النبى، حين نصحه حماه "كاهن يثرون"، الغريب عن شعب الله، فى شأن قيادة الشعب والفصل فى خلافاتهم ومشاكلهم، وقد وجده يفصل فى كل كبيرة وصغيرة، فقال له «مَا هذَا الأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ لِلشَّعْبِ؟ مَا بَالُكَ جَالِسًا وَحْدَكَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ وَاقِفٌ عِنْدَكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ؟»...«لَيْسَ جَيِّدًا الأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ. إِنَّكَ تَكِلُّ أَنْتَ وَهذَا الشَّعْبُ الَّذِي مَعَكَ جَمِيعًا، لأَنَّ الأَمْرَ أَعْظَمُ مِنْكَ. لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَهُ وَحْدَكَ. اَلآنَ اسْمَعْ لِصَوْتِي فَأَنْصَحَكَ. فَلْيَكُنِ اللهُ مَعَكَ. كُنْ أَنْتَ لِلشَّعْبِ أَمَامَ اللهِ، وَقَدِّمْ أَنْتَ الدَّعَاوِيَ إِلَى اللهِ، وَعَلِّمْهُمُ الْفَرَائِضَ وَالشَّرَائِعَ، وَعَرِّفْهُمُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ. وَأَنْتَ تَنْظُرُ مِنْ جَمِيعِ الشَّعْبِ ذَوِي قُدْرَةٍ خَائِفِينَ اللهَ، أُمَنَاءَ مُبْغِضِينَ الرَّشْوَةَ، وَتُقِيمُهُمْ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ، وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ، وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ، وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ، فَيَقْضُونَ لِلشَّعْبِ كُلَّ حِينٍ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ الدَّعَاوِي الْكَبِيرَةِ يَجِيئُونَ بِهَا إِلَيْكَ، وَكُلَّ الدَّعَاوِي الصَّغِيرَةِ يَقْضُونَ هُمْ فِيهَا. وَخَفِّفْ عَنْ نَفْسِكَ، فَهُمْ يَحْمِلُونَ مَعَكَ. إِنْ فَعَلْتَ هذَا الأَمْرَ وَأَوْصَاكَ اللهُ تَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ. وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ أَيْضًا يَأْتِي إِلَى مَكَانِهِ بِالسَّلاَمِ. فَسَمِعَ مُوسَى لِصَوْتِ حَمِيهِ وَفَعَلَ كُلَّ مَا قَالَ.».
ومن يطالع ما وثقه موسى النبى فى اسفاره الخمسة "التوراة" خاصة فى سفر الخروج الذى أورد هذه الواقعة يدرك أن هذا الترتيب لم يكن بتوجيه مباشر من الله لموسى، ولم يأت كما اعتاد موسى، هكذا (وَأَمَّا مُوسَى فَصَعِدَ إِلَى اللهِ. فَنَادَاهُ الرَّبُّ مِنَ الْجَبَلِ قَائِلاً: «هكَذَا تَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ، وَتُخْبِرُ بَنِي إِسْرَائِيل ....». ثم يملى عليه أوامره ووصاياه), وهو ما لم يحدث فى هذه الواقعة.
نحن أمام ترتيب استراتيجى ينظم منظومة القضاء لشعب الله يقول به شخص من خارج الجماعة ولم يذكر فى سياق الحكاية أن الله رفض هذا الترتيب، أو أجازه بتوجيه صريح، ولهذا دلالته، أن الشأن التنظيمى متروك لأصحابه وللقيادة المسئولة والتى تملك تطويره وتعديله بما يتفق وصالح الجماعة.
أما المصدر الثانى
فكان ترتيب الإدارة فى الامبراطورية الرومانية، والتى ولدت الكنيسة وقتها ـ يوم الخمسين بحسب سفر أعمال الرسل ـ ففى مقابل حاكم الولاية يأتى الأسقف، وفى مقابل مساعدى الحاكم أو رؤساء المدن يأتى القمامصة، وفى تطور لاحق يظهر موقع البطريرك والذى يناظر موقع الإمبراطور، وتبقى العلاقة بينهم هرمية تماثل النظام الامبراطورى الهرمى بطبيعته. وإن اختلف مفهوم السلطة وأدواتها وغايتها فى كليهما؛ الكنيسة والإمبراطورية. وهو ما حرص على تأكيده القديس بولس فى رسائله لتلاميذه حين تعرض لمواصفات الأسقف والقسوس. وقد أوردته فيما سبق من حلقات فى هذا البحث. مع الإنتباه إلى أنه لا فرق بين كهنوت الأسقف وكهنوت القس بدرجتيه، وإنما هو ترتيب ادارى بحت، واختلاف فى الصلاحيات لانضباط الكنيسة.
وتأسيساً على ذلك يمكننا استيعاب ما ادخلته كنائس
تقليدية رسولية فى شأن الاسقف وصلاحياته،
وامكانية تقاعده، أو إقالته،
مع احتفاظه برتبته الكهنوتية،
ما لم يرتكب ما يستوجب نزعها منه،
وهو أمر قوبل عند طرحه برفض قاطع من الكنائس
القائمة فى مجتمعات أبوية، خاصة فيما يتعلق بموارد الكنيسة
والتماهى بين العام والخاص، وما يصحبه من خلط بين مفهوم
الوكيل ومفهوم المالك "المتسلط على انصبة". والتى مدت هذا
المفهوم الى ما هو أبعد لتنشئ ارتباطاً لا ينحل بين الايبارشية
واسقفها حتى إلى القول بأنه ارتباط زواج لا ينفصم إلا بالموت،
فيما العلاقة الوحيدة التى لا تنفصم هى بين المسيح المالك الحقيقى
والوحيد وبين الكنيسة العروس المهيأة أبداً لعريسها.
ويبقى الأسقف الوكيل المطالب فى كل لحظة بتقديم حساب وكالته.
فإذا انتقلنا لحال كنيستنا القبطية الأرثوذكسية فى ضوء ما سبق نجد أن اعادة ترتيب الهرم الإكليروسى فى نطاقه الإدارى التدبيرى بوعى كتابى وآبائى أمر مشروع، بل ووجوبى تقتضيه مصلحة الكنيسة الرعوية، خاصة فى ضوء الخلط بين المطران (متربوليت) والأسقف (ابيسكوبس) واعتبار أن منح الاسقف رتبة المطرانية مكافأة فيما هى ترتيب تدبيرى تنسيقى كما هو الحال مع القمص (ايغومانوس) والقس (برسفيتيروس)، فالأصل أن لكل مدينة كبيرة مطران يتبعه اساقفة المدن الصغيرة (المراكز)، ولكل كنيسة قمص (مدبر) يتبعه عدد من القساوسة، فينضبط السلم الادارى التدبيرى ويُسأل كلِّ فى موقعه وفقاً لمسئولياته.
ولما كان للكنيسة ابناء يقيمون خارج مصر ما بين اقامة دائمة (هجرة) وإقامة مؤقتة (عمل أو دراسة)، فقد بادرت الكنيسة بترتيب رعاية لهم فى تجربة معاصرة، بدأت بشكل متوانر فى حبرية البابا كيرلس السادس، وكان العقل المدبر والراعى المتابع لها الأنبا صموئيل اسقف الخدمات، حتى أن صورته كانت داخل كل بيت قبطى فى بلاد المهجر بالغرب، وبالتوازى كان للبابا كيرلس اهتماماً خاصاً بأفريقيا، باعتبارها الامتداد الطبيعى الجغرافى والتاريخى لمصر، خاصة السودان واثيوبيا ودول حوض نهر النيل.
بعض هذه البلاد تشهد وجود الجيل الرابع من المصريين فيها، وكثيرهم يحملون جنسية مزدوجة، ويتوارثون حنينهم الجينى لمصر، ولذلك اصبح من المحتم اعادة النظر فى الهيكل الاكليروسى التدبيرى بما يوفر خدمة رعوية تتفق واحتياج أبناء الكنيسة بالداخل والخارج، فى ضوء التطور المباغت والمتسارع للأجيال الجديدة والقادمة، مع تعاظم التحديات الفكرية والمادية التى حملتها الثورة الرقمية والتطور المعلوماتى التقنى والذى فرض نفسه على العالم ولم تعد المفاتيح القديمة قادرة على فتح ابوابه الجديدة والمصفحة بالعلم والخبرات المتطورة.
لذلك تحتاج الكنيسة المصرية أن تطرح الهيكل التنظيمى الرعوى للبحث والدراسة بشكل اكاديمى عملى، ليس فقط فيما يتعلق بالترتيب الإكليروسى، بل وفى محاور اعداد الرتب من الاسقف إلى الشماس مروراً بالقسوس والقمامصة، ليكونوا مؤهلين وقادرين على اداء مهام مواقعهم الكنسية، وهو أمر يحتاج الإقرار بشجاعة بأننا تخلفنا كثيراً فى هذا المضمار، وتقره المصادمات الدائرة داخل الجماعة الإكليروسية والتى قفزت إلى صفحات العالم الإفتراضى وصارت خبز يومنا على حساب سلام الكنيسة، متى نعترف أن وجود الكنيسة نفسه بات مهدداً، فى عناد ومكابرة وغلو وغرور تملكوا من طيف يتزايد من القادة ربما لأنهم عزفوا عن قراءة خبرات الجماعات المسيحية التى اندثرت وعزفوا على لحن الشيفونية والاستعلاء غير المبررين.
سؤالى لآباء المعارك المفتعلة والمدمرة بآن،
هل انتم مستعدون للتحول الذى ينتظر الكنيسة
ومعه تنتقل من المحلية إلى المسكونية.
فيكتشف الكافة أننا عراة وبائسون
بحسب وصف كاتب الرؤيا ورسائله الى كنائس تشبهنا،
أخشى أن يخرج بنوكم الى كنائس ادركت التطور وخاطبت
الشبيبة بلغتهم وقدمت حلولاً لقضاياهم بعيداً عن مغازلتهم
بأساطير ميتافيزيقية لا تصمد أمام تيارات النقد اللاهوتى،
الأفدح أن تخنقهم حبال الإلحاد وتلقى بهم خارج دوائر
الإيمان !.
الصورة المرفقة تحمل تصوراً مبدئياً لاعادة هيكلة الهرم التدبيرى الكنسى سأتناوله فى المقال القادم، ومداخلنا إليه.