القمص أثناسيوس فهمي جورج
إيمان الكنيسة القويم وتعليمنا الأرثوذكسي ؛ يظهران جليًّا في سِيَر وحياة المؤمنين القديسين الذين شاركوا واشتركوا في قداسة الله ، الذﻱ قدسهم وصاروا قديسين كما هو قدوس ، متممين إرادته بقداستهم ؛ مشتركين في أعماله ، فأتت سيرهم وقصص حياتهم حاملة لأصالة صدق حق انجيل المسيح ، كشهادة حية عملية ، متفقة مع سيرة حياة وخبرات روحية ؛ شقت طريق العشرة الإلهية وخَبِرت أسرارها. بحفظ وصايا الله واشتهاء تكميل الوصايا كمركز حياتهم αφιεις την εντολην του Θεού ο εστι ο εργον της ψυχής
لذلك لا بُد لمن يدوِّن أو يشرح سرد السير الذاتية لحياتهم ؛ أن يكون على وعي بمبادئ وأصول الحياة المسيحية المؤسَّسة على وصايا الإنجيل... عالِمًا بأن سيرة كل قديس هي مجرد شعاع ينبعث من تاج نور المسيح ملك القديسين ربنا وربهم ورب كل أحد ، الذﻱ بدونه ومن غيره لا تكون قداسة لأحد... من المؤسف أن هناك أُناس غير أكفاء يقومون بالترويج لسير غير مقننة ، وغير مؤسسة على معيار الحق الإنجيلي الآبائي ؛ ولا علي التسليم المستقر في خبرة الاستقامة الأرثوذكسية والجهاد القانوني ، مما تسبب في تشويه معالم القداسة الحقيقة في أذهان المؤمنين ؛ منطبعًا على حياتهم (وهو ماورد في الكثير من الكتب والأفلام).
كذلك تزايد في زمننا ؛ حشد السير بالكثير من المعجزات التي أيضًا أبعد ما تكون عن مغزَى المعجزة وغايتها وكثرة اعتيادها ؛ بطريقة تشكك في القصد منها ومن معناها ، وتُظهرها في غير موضعها القانوني ، بل وأحيانًا تضاد الأعمال التي تمجد الله في قديسيه ، وتشوِّش مفهوم الشفاعة والاقتداء بالقديسين الذين اتبعوا طريق مَلِك القديسين وتكرَّسوا له ، فصاروا أيقونة لكنوز الحكمة والمعرفة المزخرة فيهم ، والشاهدة على أنه هو الذﻱ وهبهم فيض مواهبه ونعمة سلطانه ، في النفس ψυχή والروح πνεύμα .
والدرس لنا لنتمثل بهم ونطلب صلواتهم ؛ لأنهم سبقونا وكمُلوا في الإيمان ، وحاربوا المحاربة الحسنة في حربهم الروحية πνευματική ، لنتقوى نحن بنموذجهم وبحياتهم المليئة بالفضيلة السامية والقدوة العملية والإنجيل المعاش فيهم . وهم واقفين معنا يشفعون كي نكمل سيرنا ؛ لكن شفاعاتهم وسيرتهم هذه لن تكون ذات جدوًى ؛ إلا إذا عشنا كما عاشوا ، وسلكنا كما سلكوا الطريق الضيقة ؛ ودخلنا من ذات الباب بالاقتداء والسير علي اثار الغنم الذين صاروا لنا معالم وعلامات علي الطريق .
معجزاتهم تتبعهم ؛ لكنها لا تتقدمهم ، وهي معطاة لهم بسلطان صاحب السلطان الوحيد ، لتكون منه ولمجده ؛ ولا تهدد خلاص صانعها ، كونها برهانًا على قوة الله وأعاجيبه في قديسيه ، وهي في النهاية تعطي المجد لله ولعمل روحه القدوس العامل فيهم وبهم في كل شيء... وقد أتت ضمن وساطة الابن الوحيد المعبود وحده والمتعجب منه بالمجد ، كاشفين في حياتهم وجه يسوع وصبره وناموسه الذي يعتمد كليا علي تتميم المحبة αγάπης πλήρωσαν εξ ανάγκης απαιτει ο του Θεού νόμος την δε της
وتتنوع طريقة كتابة سِيَر القديسين والقديسات ، إذ اتخذ بعضها شكل السيرة الذاتية ، التي يكتبها تلميذ أو معاصر أو مؤرخ.. وبعضها يأخذ شكل الخبر الذﻱ يستقيه كاتبه سواء كان معاصرًا أو لاحقًا ، من مصادر أخرى ، وبعضها يتم العثور عليها ضمن عظات ورسائل أُلقيت أو أُرسلت وكُتبت في مديح القديس أو القديسة إثر نياحته أو نياحتها ، أو إثر الاستشهاد بالاعتراف الحسن. كذلك هناك ما هو متضمَن في تسجيلات المؤرخين والثِّقَات الكنسيين.
تحيط كتابة السِيَر صعوبات كثيرة ، تتعلق بشُحّ المعلومات وتدقيقها وتواريخها وتفاصيلها ومعقوليتها ويقينيتها ، إلى جوار بعض التشويهات والتعديلات وأخطاء النساخة وغير ذلك.. لكن ليس معنى ذلك أن يتمادى النُّقّاد والمُغرضين في نقد أعمال السير αναστροφη ، أو أن يتحسر البعض على عدم حدوث نفس الظواهر الخارقة والمبالَغ في ذكرها. لكننا في مسيرة دراسة علمية ، تتجه بالإيمان والسجود إلى تدقيق السِيَر وتحليلها ؛ واستخلاص ما هو نافع لبناء حياتنا ؛ بطريقة تتناسق مع تعليم الإنجيل واختبارات الآباء ؛ متمثلين بهم كما هم أيضًا بالمسيح (١ كو ١١ : ١).
ولا بُد أن يراعي كل من يتصدى لعمل كتابة سير القديسين المعاصرين ، أن يتقدس ؛ ملتزما بقانونية تعليم وصايا الإنجيل ، ومشورة الآباء والمعلمين الثِّقَات ، لتكون السير نافعة ومدققة ، تكشف عن كنوز من عاشوا معنا ، لنغرف من مَعِينهم أهمية وقيمة ثرواتهم التي تشير إلى غنى الإنجيل الممكن ، كتراث حي في أشخاص شكَّلوا بناء الحجارة الحية المرصوصة ، في بنيان أعمدة الملكوت ؛ بسير من المفاخر التي سجلت ترجمة للنفوس والعقول والقلوب. مُولِين سيرتهم وتاريخهم كل اهتمام لما حَوَتْه من زخم خبرة دسمة ، تستحق الغوص فيها لاكتشاف طريقة عيشهم ؛ كخطوط زاهية في تاريخ واروقة στοσ الكنيسة المعاصرة ، مكتوبة بجهادهم ضمن تراث السير والتراجم المعروف. والذي صار انوار ومنارات واصداء افتخار علي انبل ανεβαίνω الكنيسة كلها .
فتكون كتابه سيرتهم محاوَلة جمالية لرسم أيقونات لفظية ، تحفظ جمالهم وتوثِّقه ؛ ليتحول من حالة السيولة إلى حالة النفع ؛ منسابًا كعجينة البيان ، التي تخمر عجين تاريخنا... في رحلة قداسة ؛ بدأت بذور ثم جذور ثم ثمار. ومسيرة حياة متكاملة ، ترصد منهج عيشة وتراث ومبادئ حياة متمازجة ، مع عموم الآباء ؛ ضمن مفاصل التاريخ الكنسي العام ، ومِدْماكًا هاما في طريق حياتها... نجدها دائماً زادًا ووقودًا لمستقبل مضمون ، نتسلمه في صورة المسيح المنفتحة والمنطلقة في هؤلاء الأبرار.
قصص أعمالهم عندما تُكتب بإلهام الروح الواعي ، تسرد خبرات شخوص وسير وأصوات متنامية الروح ؛ لا تتوقف بمحدودية الزمان والمكان ، مجددين الأصداء بقداستهم وشفاعتهم وتعهداتهم لنا بالصلاة والطلبة. فكلما انفتحت أعيننا بالإيمان على الأبدية ، نجدهم معنا وقد نقلونا عندما كانوا هنا معنا ؛ لأنهم أبطلوا المشيئة الذاتية والكرامة والغنى والزوال وكل تيار يُعيق بلوغهم للمجد، تقدسوا وتخصصوا للغرض الإلهي وأصطبغت حياتهم بفضيلة الفضائل مشتركين في قداسة القدوس .. فقادونا لله أبينا السماوﻱ. وصار تاريخهم ليس انتصارات وإنجازات ولا سجلات ؛ لكنه سكنسار συναξαριον تاريخ مقدس مفعم بالفضيلة والبر لسير عاشت معنا ، وهي محببه لمن لهم عين روحية ترى مجد الله في أوانيه الخزفية ؛ لأن الذين يرون الأمور مسطحة عقلانية خالية من الروح ، ويفسرون الزمان دون أن يروا عمل الله فيه ، يقعون فريسة الإدانة وخيبة الأمل. أمّا نحن فبنظرة الإيمان نرى آلاف الرُّكَب المنحنية التي لم تنحنِ بعد لبعل. موقنين بأن الكنيسة وَلّادة ؛ وأن الروح القدس فاعل وحاضر فيها كل حين ؛ وأن عصر القداسة لم ينتهِ ؛ لكنه ممتد لمجيء الآتي والذﻱ سيأتي ، حاضرًا بقداسته في التاريخ ضمن هذه السير الذاتية التي لقديسي العلي ، حيث النماذج البشرية النادرة الذين تسموا " احباء الله " أو " اتقياء الله " أو " متقي الله " أو " رهاب الله " وقد جري اتباع تقليد سرد نمط السير السردية للقديسين Οι βιοι των αγιων ، وصارالحديث عن " سير القديسين " معروف بمصطلح " الهاجيوجرافيا Hagiography " بداية من نموذج سيرة حياة انطونيوس بقلم اثناسيوس الرسولي - وسيرة انبا بولا وايلاريون وملخس بقلم القديس ايرينموس جيروم - والاعترافات بقلم اغسطينوس اسقف هيبو ، ليكونوا انوار بمقتضي تقديس الروح القدس ، وبمعونة القدوس صانع القداسة .