أحمد الخميسي
لو أن الظروف كانت قد أسعدتك بالتعرف إلي شخص الكاتب الكبير علاء الديب والتردد عليه في الفيلا الصغيرة التي كان يسكنها في المعادي، والجلوس معه في شرفته المطلة على حديقة صغيرة هادئة لرأيت كيف كان الديب وهو يشرب قهوته يختلس نظرات محبة سريعة إلي الحديقة فتبدو الحديقة كأنها امتداد هامس لروحه العذبة.
رحل عنا علاء الديب في 18 فبراير 2016، وهو ملء السمع والبصر روائيا وناقدا، ترك ثلاثية روائية " أطفال بلا دموع"، " قمر على المستنقع"، و" عيون البنفسج"، علاوة على قصص " المسافر الأبدي" ورواية " أيام وردية"، وكتب أخرى منها " وقفة قبل المنحدر".
بدأ علاء الديب في شق طريقه الأدبي عندما نشر أول قصة له " الشيخة" عام 1962، ثم صدرت مجموعته الأولى" القاهرة" في 1964، وتلتها الثانية " صباح الجمعة " في1970، ثم توالى انتاجه الأدبي.
فكريا ينتمى الديب إلي قيم الوطنية المصرية التي تشكلت قبل ثورة يوليو ثم رسختها الثورة: الاستقلال. التصنيع. العدالة الاجتماعية. العداء للاستعمار ودعم حركات التحرر وفي المقدمة منها فلسطين التي تشغل مكانة خاصة لدي شخصيات علاء الديب في تأملاتها وأحاديثها. وعلى سبيل المثال فإن فلسطين لدي أمين الألفي بطل رواية " أيام وردية " هي : " عامل مساعد يكشف به الصدق من الكذب" بل وفلسطين دائما : " تسد حلقه، كأنما هو الذي باع، والذي خان، هو الذي مات، وهو الذي صمد مثل الشجر، هو الذي انفجر واستشهد، هو الذي تشرد وحوصر وقاتل وقتل".
ومنذ روايته الأولى " القاهرة" عام 1968 يطرح الديب بقوة غربة وانكسار المثقف بعد النكسة ، والاستسلام للشعور باليأس الذي تجسده شخصية " فتحي"، الذي يحيا مع زوجة لا يرى فيها سوى أنها : " إطار كاوتش لم يعد صالحا للاستعمال"، وعندما يقتل فتحي زوجته ويدافع عن نفسه أمام المحكمة نقرأ دفاعه أقرب ما يكون إلى بيان انسحاب المثقف، وهزيمته، بل وانتحاره بعد نكسة 1967، بعد أن انزوى حسب اعتقاده" كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة".
وسنرى في كل أعمال الديب اللاحقة ثمار النكسة – بعد حوالي ربع قرن من وقوعها- وقد تجسدت وأصبحت جزءا من التكوين النفسي والفكري للبشر الذين تشبعوا بالمرارة والانتهازية والهروب من كل مواجهة، والشعور بأنه ما من مخرج وما من ضوء في نهاية النفق.
وبينما يشير الديب إلي الظروف التاريخية التي خلقت كل ذلك، فإنه في الوقت ذاته لا يعفى الإنسان من المسئولية الشخصية الأخلاقية عما أصبح عليه وجوده. يقول علاء الديب في أوراقه إن والده:" كان ينقل إلي جليسه محبة وسكينة ".
هذا بالضبط هو الأثر الذي كان علاء الديب يتركه في نفوس أصدقائه : المحبة والسكينة، لكنها مشبعة بشجن عميق وأسى على أحوال العالم والبشر. ظل الديب على مدى أربعين عاما يقدم في الصحافة باب" عصير الكتب" ويعرف القراء بالأدباء الجدد والكتب الجديدة بدأب وصبر. بقدر ما أتاحت لي الظروف أن أجلس معه لم أسمع منه قط كلمة " أنا " ، ولا أية إشارة عابرة لأعماله، فقط كان يحدق بالجالس أمامه باهتمام ويسأله :" كتبت حاجة جديدة؟".
أو يتناول كتابا ويدفع به إليك قائلا:" اقرأ قصص هذا الشاب، ممتاز".
رحل علاء الديب عن عالمنا وبذلك فارقنا إنسان تمتع بموهبة فريدة هي حب الناس، وكاتب تجاوز دائما النقص في محاولات الآخرين متطلعا إلي احتمالات النضج والكمال. وكأنه يقول لنفسه : ربما يحل اليوم الذي يصبح فيه البشر أفضل والأدب أجمل، وفي انتظار يوم كهذا يمكن التشبث حتى النهاية بحب الناس والأمل.