كمال زاخر
كان يوما حافلاً ومبهجاً ومرهقاً معاً، فى العام 2000، يومها قصدنا اسيوط المدينة، لترتيب إقامة ابنتى التى ذهب بها مكتب التنسيق إلى كلية الهندسة هناك، وصلنا مع تباشير الصباح، وكان لنا جولة بين بيوت الطالبات المختلفة، قبل أن ننجح فى ايجاد مكان لها فى المدينة الجامعية، وكانت خبرة رائعة، حيث الحزم والإنضباط والمتابعة المتميزة من منظومة ادارتها.
انتصف النهار وتواصلنا مع صديقة اسيوطية للأسرة، المرنمة التى تخدم اجتماع ابينا المطران الأنبا ميخائيل، صوتها أكثر من رائع، زادته طلاوة لهجتها التى اعادتنا إلى بيتنا الكبير ودفء الجنوب، استقبلتنا بحفاوة ليست بغريبة عن أهلنا، ما كدنا نجلس حتى "رن" جرس التليفون الأرضى، لم يكن المحمول قد صار فى كل يد وقتها، بحسب نبوءة ـ أو قل رؤية ـ رجل الأعمال المصرى مهندس نجيب ساويرس، نظرت إلينا مدام سارة بدهشة، كان على الجانب الآخر الأنبا ميخائيل، أخبرته بوجودى، فطلب منها أن أذهب لمقابلته فى كنيسة المطرانية ... "للموعودين" كان تعليقها العفوى.
كان اللقاء فى صحن الكنيسة العتيقة، قيل لى أن ابينا المطران سيأتى خلال دقائق، كنت وحدى فى الكنيسة كانت الأضواء مطفأة، فيما تتسلل بعض من اشعة الشمس من نوافذها لتنقلك مع ايقوناتها الى اجواء القرن الرابع، وكأنه اراد ان يستكملها فعلى غير توقع لمحت شبحاً يخرج من الهيكل، قادماً من باب خلفى يفضى إلى مقر اقامة الأب المطران. خرج متدثراً فى شال يشبه ذاك الذى كان يرتديه جدى، وحين اقترب منى اكتشفت انه ابونا المطران.
لم يكن يمسك عصا، فقط صليب خشبى بسيط؛ يارب سلام، كانت تحيته، اهلاً بالكاتب العنيد، جلس بجوارى على "الدكة" ورغم انها المرة الأولى التى التقيه فيها إلا أن الأُلفة كانت حاضرة، اكتشفت فيه قارئاً ومتابعاً مدققاً، ناقشنى فيما أكتب بالتاريخ والعنوان والمضامين، سألته فى اشكاليات وأزمات الكنيسة وأجابنى بموضوعية وترتيب، ومحبة غامرة للكنيسة وثقة بأن للتاريخ دوراته وأحكامه، سألته لماذا تبقى بعيداً وانت شيخ المجمع وحكيمه، أجاب بإيجاز وحسم، اشفق على صقور الفضاء الافتراضى الورقية، ولجانهم الالكترونية من قراءة رؤيته ورأيه، لذلك سأكتفى بما تحتمله اللحظة، قال "أنا مُحمَّل بخدمة ورعاية مدن وقرى ايبارشيتى، التى سأعطى عنها حساباً، وهى عبء ثقيل، لا يحتمل كاهلى الذى ينوء به أن أضيف عليه."
لم يذهب ابونا المطران بعيداً عن قوانين الكنيسة، وحصافة الكبار، وخبرة السنين، لكننى توقفت كثيراً أمام كلماته وموقفه، فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة مجمعية وليست بابوية، بمعنى أن قراراتها التدبيرية تصدر عن مجمع اساقفتها ويلتزم بها كل المطارنة والاساقفة حتى من صوت ضدها داخل المجمع، وقد ذهبت قوانين الكنيسة المسكونية والمكانية إلى قطع الأسقف من درجته ومن الشركة إذا قام بإثارة الشغب والعصيان فى إيبارشية أخرى فى سعيه لاغتصابها، فيما يعرف يصراع الكراسى، بل ونصت ايضاً على "أنه لا يجوز لأسقف أن ينتقل إلى كرسى آخر تاركاً كرسيه، ولا أن يهمل العناية بايبارشيته لإهتمامه بأشغاله الخاصة"، وفى قانون أخر "أى اسقف أو قس أهمل الإكليريكيين أو الشعب ولم يدربهم فى سبل التقوى فليُقطع من الشركة، وإذا داوم الإهمال والكسل فليُسقط".
ويمكن لمن يريد التعرف باستفاضة على كل ما يتعلق بهذه القوانين الرجوع إلى أحد أهم المراجع التوثيقية "مجموعة الشرع الكنسى" والتى صدرت ترجمتها العربية ضمن "منشورات النور" التى تنشرها كنيسة انطاكية "الأرثوذكسية".
وهو يضم مجموعة القوانين الكنسية التي سنتها المجامع الرسولية والمجامع المسكونية (السبعة) ـ مع الانتباه أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا تعترف إلا بأربعة منها هى مجمع نيقية (325م)، مجمع القسطنطينية الأول (381م)، مجمع أفسس الأول (431م)، مجمع أفسس الثاني (449م) ـ ويضم هذا المرجع ايضاً قوانين المجامع المكانية والقوانين الآبائية مع تعليقات تفسيرية عليها.
وسيجد ضمنها فيض من القوانين التى تحكم عمل ودور ومسئوليات الأسقف، فى ايبارشيته، وصلاحيات وحدود تعامله ـ وتصرفه ـ فى أموال ايبارشيته، وعلاقاته بالإيبارشيات الأخرى، ومنعه من اغتصابها أو انتقاله إليها ومنع تدخله فى شئونها، بل وتتعرض ايضاً لضوابط اسقاطه من رتبته، وكذلك استقالته من عمله الأسقفى.
واعتقد أن عمل البابا تواضروس فى مأسسة الكنيسة، الإنتقال من الفرد إلى المؤسسة، لن يكتمل إلا بالبدء فى توثيق القوانين الكنسية التى تقرها الكنيسة بشكل اكاديمى يشكل له لجنة كنسية تاريخية لاهوتية من اباء وعلماء وارخنة الكنيسة، وجمعها فى دستور كنسى يعتمده مجمع الاباء الاساقفة ومجمع الأراخنة. ليضع نقطة فى أخر سطر الجدل والارتباك والشخصنة التى يصنعها من يقلقون الكنيسة إما لضحالة فكرهم أو لتحقيق غايات شخصية ضيقة.
ولعل الكنيسة تلتفت لما استجد من قضايا لم تكن مثارة قبلاً، أو لعلها نتجت عن التطورات التى لحقت بمنظومة الخدمة والتى امتدت إلى خارج مصر، فى كافة قارات العالم، والتى قابلتها الكنيسة برسامة اساقفة فى البلاد التى تشهد حضوراً مصرياً مسيحياً، وتأسيس اديرة ببعضها.
• فماذا عن الأجيال التالية لجيل الآباء المؤسسين؟.
• وماذا عن طبيعة العلاقات المؤسسية مع كنائسنا بالخارج بعد أن تصبح تلك الأجيال المزدوجى الانتماء هى الموجودة حصراً بها؟.
• وماذا عن سعى بعض اساقفة الداخل المصرى لتبرير سفرهم المتكرر لتلك البلاد خاصة فى اوروبا وأمريكا بعد أن صارت ايبارشيات لها اساقفتها؟.
هل ستشهد الكنيسة تنظيماً متطوراً يفرضه واقعها الجديد ، كتشكيل مجامع اسقفية إقليمية قارية أو مكانية هناك بحسب كثافة الرعية فيها؟، وحدود العلاقة بينها وبين تنظيمات الكنيسة الأم؟
وهل يمكن دراسة هوية البابا بعد جيل أو جيلين، أم سيظل الاختيار محكوماً بالقواعد القائمة والتى قد تدفع الكنائس القبطية بالخارج الى الانفصال والاستقلال؟.
اسئلة مشروعة تنتظر اجابات هادئة ورؤية موضوعية.