كمال زاخر
بين القمم والقيعان تأرجحت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عبر الزمن الممتد لقرون، من لحظة أن وطأت قدما القديس مرقس الرسول أرض الأسكندرية، كارزاً ومبشراً، وربما قبلها مع الحجيج المصرى اليهودى العائد من اورشليم بعد أحداث يوم الخمسين التى وثقها القديس لوقا فى سفره الثانى "أعمال الرسل"، وذكر أن من شهود تأسيس الكنيسة وحلول الروح القدس مصريين يهود ضمن أجناس عديدة ومنهم عرب، فمن الطبيعى أن يسيطر هذا الحدث المتفرد على أحاديثهم مع ذويهم. وظنى أنه صار وقتها حديث المدينة.
يؤسس القديس مرقس كنيسة الأسكندرية، فى القرن الأول الميلادى، والتى تخوض مسيرة عاصفة فى مواجهة اليهود والرومان والأديان القائمة، والثقافة الهيلينية ومدارسها الفلسفية المختلفة، لم يتنكر المصريون لتراثهم قبلها، وما وقر فى وجدانهم من قيم ومفاهيم حياتية راقية، بل أخذوها معهم وعمّدوها فقد وجدوها محملة باشارات كانت غائمة عن الثالوث والتجسد والفداء والقيامة والبعث والأبدية، انكشفت عبر بشارة مرقس وتفككت غوامض الأساطير أمامهم، وقد ادركوا رموزها، وانضبطت إحداثياتها على حقائق الإنجيل؛ يتذكرون تلك الفتاة وطفلها، والتى جاءت تحتمى بهم قبل سنوات ليست بعيدة ربما على مرمى جيل أو جيلين، وقد احسنوا وفادتهما ومعهما ذاك الشيخ الوقور، وسرعان ما تتحول المواقع التى تنقلوا فيها إلى كنائس تحكى حكايات الود المتبادل بين تلك العائلة وذاك الوطن.
حكايات التاريخ لا تنتهى، وقد تستغرقنا بل وتخطفنا إلى سطور مخملية تبتعد بنا عن واقع يئن من المتاعب وتعطل انجيل المسيح، وتجنبنا الاشتباك مع القراءة المتبصرة، فيبقى الحال على ما هو عليه، بل تقودنا إلى ما هو أفدح، وهو ابتعاد له ما يبرره، فالجسد الكنسى مثخن بجراحات تتزايد وتتعمق، وهو ملقى على جانب الطريق، يمر عليه عشرات ومئات من اللاويين والكهنة دون أن يلتفتوا إليه، وأظنهم مشغولين بطرق باب قصر الغنى المنيف، الذى يقع على بعد خطوات منه.
ومن يتابع ما ينشر على مواقع وصفحات الفضاء الإلكترونى متعلقاً بالكنيسة يجده ترجمة واقعية لقول رب المجد:«فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هذَا الْجِيلِ؟ وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ يُشْبِهُونَ أَوْلاَدًا جَالِسِينَ فِي السُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا." (لو 32:7).
وهى حالة متوقعة والعالم على المستوى العام يشهد ارتباكات وتطورات غير مسبوقة، يتجاوز أخبار الحروب إلى الحروب نفسها، ومن أخبار الأوبئة إلى الأوبئة نفسها، ويعيش تناقضات فارقة، فبينما تتوفر له الرفاهية فى شماله يطحنه الفقر المدقع فى جنوبه، تنفك فيه قيود المعلومة وتصبح فى كل يد، ويلفه عدم اليقين، وتربكه الشكوك، والكنيسة لا تعيش فى كبسولة معقمة بل هى فى قلب العالم تؤثر وتتأثر معه وفيه.
فى كل الأحوال كانت ـ ومازالت ـ عيون المختبرين، وقلوبهم أيضاً، شاخصة ومتعلقة بالكنيسة متيقنة أنها تحمل مفاتيح المصالحة والاصلاح، فهى مازالت تردد أهازيج ذلك الحدث الذى تم هناك فى عمق الزمن وفى عمق قلب الله وهو يخطب فى المسيح، وبه، ود الإنسان "ليرده إلى رتبته الأولى"، عبر وثيقة حب ختمها بدمه، وحققها بموته، ووثقها على الصليب، وأعلنها بقيامته، ووهبها لنا عبر تجسده، صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ، إِنْ كُنَّا نُنْكِرُهُ فَهُوَ أَيْضًا سَيُنْكِرُنَا. إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ.
يلح علىَّ قلمى أن اعيد التذكير بتحليل كتبه أب كاهن تناول فيه الزيارة الوحيدة التى قام بها أول الرهبان القديس انطونيوس لأبو السواح القديس بولا، فى مغارته بكهوف تلال البحر الأحمر، ولغز طلب الأنبا بولا منه أن يعود أدراجه الى الأسكندرية ويطلب من البابا القديس اثناسيوس الرسولى أن يعطيه العباءة التى أهداه اياها الامبراطور قسطنطين ضمن هداياه التذكارية لآباء مجمع نيقية ال 318، وكانت تضم بحسب الباحث، العباءة الملكية وتاج وصولجان وكرسى كمثيلاتها الإمبراطورية.
اللافت أن البابا استجاب لطلبه، حمل الأنبا انطونيوس العباءة وعاد ليجد القديس بولا قد رحل عن العالم، فكفنه بالعباءة وخلع عنه ثوبه الليفى الخشن ليعود به للبابا الذى احتفى به أيما احتفاء وقرر أن يرتديه تحت ثيابه الكهنوتية. فى إشارة لاستيعابه رسالة الناسك.
لم يكن الأمر رغبة من ق. بولا أن يتدثر بعد موته بعباءة الإمبراطور وهو الذى عاش حياته ناسكاً فى فقر اختيارى، رأى غناه فى المسيح. بل كان يوجه رسالة إلى البابا أن يعود إلى ادارة الكنيسة بغير أدوات السلطان وعباءته، يقودها بسلطان الروح المتضع والأبوى، لكن الذى جاءوا بعده اعادوا انتاج العباءة والتاج والكرسى والصولجان، شرقاً وغرباً، وإن سبقنا الغرب إلى ترميز هذه الأدوات وخففوا من غلوائها، فيما رحنا نعمقها ونبرزها، ربما بتأثير سلاطين أزمنة القهر، الذين توالوا على حكم البلاد، وبخاصة المماليك والعثمانيين.
لم تنجح ومضات التنوير التى غشيتنا فى القرنين التاسع عشر والعشرين فى دفعنا لمراجعة هذا الغلو، والأغرب أن هذه المظاهر السلطوية زادت مع اجيال المتعلمين ـ الجامعيين ـ الذين ملأوا الدنيا عبر مجلاتهم وبياناتهم وحراكهم المنظم والملِّح بمطالب العودة إلى الجذور الآبائية، فلما دانت لهم السلطة أصروا على تعميق سلطانهم، وتغليظه، وراحوا يدعمون هذا بغطاءات فقهية ونصوصية. وينقلبون على المراكز البحثية والديرية التى عكفت على إحياء التراث الآبائى، وكان من الطبيعى عند كثيرهم أن ينقلب السلطان إلى تسلط!!. وكان من الطبيعى أن تشهد أيامهم أعلى نسبة ارتداد وأعلى نسبة تفكك أسرى حتى إلى الطلاق والذى اخترق ومزق سياجات أسر خدام وخادمات وكهنة، وبعضها لم تكتف باللجوء إلى تغيير الملة، بل ذهبت إلى ما هو أبعد، لترتج المدينة وتتورط الكنيسة فى معالجات مرتبكة.
الأمر لم يقتصر على اساقفة المدن الكبرى بل طال الإيبارشيات الصغيرة التى تضم كل منها أحد مراكز المحافظة وبعض القرى التابعة له، التى يتم الزامها وتحميلها بمتطلبات الأسقف ـ بغض النظر عن طاقتها المالية ـ والذى يتوسع فى رسامة كهنة يجندهم لجلب الأموال عبر منظومة تحوله إلى متسول يطرق أبواب التجار فى المدن الكبرى واسواق العاصمة الشهيرة، ولتحفيزه يخصص له نسبة تتراوح بين 15 و 25 % من حصيلة دفاتر التبرعات (!!)، المهم أن تتوفر لنيافته السيارة الأحدث، وطاقم الزى الأسقفى بنوعيه، الخاص بالخدمة الطقسية والأخر خارجها، واللتان تتغيران مع كل عام، وتغطية زياراته المكوكية لأقباط المهجر، افتقاداً وعلاجاً. فيما يبقى للرعية الاستشفاء بالصلاة ودهنة الزيت المقدس، وتحمل التجربة فى صبر ستجزى عنه بالأبدية الصالحة فى أحضان القديسين. واضف إلى ذلك الاصرار على بناء كاتدرائية تليق به، ومقراً لنيافته، يستقبل فيه كبار الزوار من محافظ الإقليم إلى رئيس مجلس المدينة وأعضاء البرلمان وغيرهم من المتنفذين، ليقدم لنا إله غنى وشعب فقير واسقف منتشى.
ومازال للطرح بقية ...