محرر الأقباط متحدون
"لِنَسْعَ في هذا الصوم ألا تكون توبتنا توبةً تُحزِن يسوع. فهو يقول لنا: "لا تُعبِّسوا كالمُرائين، فإنَّهم يُكلِّحون وجوههم، ليظهر للناس أنَّهم صائمون". بل، ليرتسم الفرح على وجوهنا، وليَفُحْ منَّا عطر الحرّية، ولنُطلِق سراح الحبّ الذي يجعل كلّ شيء جديداً، ولنبدأ بأصغر الأمور وأقربها" هذا ما كتبه بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي في رسالته بمناسبة زمن الصوم الكبير ٢٠٢٤
 
تحت عنوان "إسألوا تُعْطَوا، اطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتَحْ لكم" وجّه صاحب الغبطة البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي رسالة بمناسبة زمن الصوم كتب فيها الصوم الكبير زمن مقدّس، والكنيسة أمّنا تدعونا وتوصينا في واحدة من وصاياها السبع أن نحافظ على ممارستنا للصوم -كلٌّ بحسب مقدرته- بقلبٍ عامرٍ بالمحبّة لله خالقنا، وبالفرح والرجاء تشبُّهاً بالرب يسوع مخلّصنا. الصوم، لكونه "انقطاعاً" عن الطعام لفترة محدَّدة من اليوم، تمتدّ من منتصف الليل حتّى الظهر، ثمّ "قطاعةً" تقوم على الاكتفاء بتناوُل الأطعمة الخالية من المنتَجات الحيوانية، فهو مسيرةٌ روحيةٌ تحثُّنا على النظر بصدق في نهج حياتنا على ضوء تعاليم الإنجيل المقدس، على مدى أربعين يوماً نستعدّ فيها لاستقبال عيد قيامة الرب. الصوم زمنٌ فريدٌ للالتزام الروحي والتقشُّفي العميق القائم على نعمة المسيح الذي يجدّد لنا الدعوة: "توبوا وآمنوا بالإنجيل".
 
تابع صاحب الغبطة يقول زمن الصوم هو مسيرة توبة، أي عودة روحية نادمة إلى الله، بالروح القدس، فيها نسمعُ كلامه المحيي كي يشعّ بنوره في حياتنا، فنكتشف نقائصنا وخطايانا، ونتوب بالنقاوة والوداعة، ونعقد العزم على التغيير. وكما اقتاد الروحُ القدوسُ ربَّنا يسوع إلى البرّية ليصوم أربعين يوماً ويُجرَّب من إبليس ويختم صومه بانتصاره الرائع على المجرِّب"، هكذا يقود الروحُ الكنيسةَ في الزمن، ويرافقنا ويهدي خطانا في صحراء هذا العالم، وبخاصَّةٍ في زمن الصوم، لنختبر مع المسيح نقصنا وضعفنا، وحاجتنا إلى التوبة والتجدُّد. فالصوم هو زمن التوبة والاعتراف بخطايانا، لتتمّ مصالحتنا البنوية مع الآب السماوي. عندئذٍ نعيش فرحين فِصحَ الربّ، بالعبور إلى حياةٍ جديدةٍ أَنْعَمَتْ بها علينا قيامةُ المخلّص. إنَّ الروح يقرّبنا من الله، الذي يقول في الكتاب المقدس: "أقودها إلى البرّية وأخاطب قلبها".
 
أضاف البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان يقول يدعونا قداسة البابا فرنسيس، في رسالته بمناسبة زمن الصوم لهذا العام ٢٠٢٤، بعنوان "عبر الصحراء يقودنا الله إلى الحرّية"، إلى عيش زمن النعمة هذا والاستفادة منه لتقوية علاقتنا بالله، فيقول: " زمن الصوم هو زمن النّعمة الذي تصبح فيه الصحراء مرّة أخرى – كما يعلن النّبي هوشع – مكان الحبّ الأوّل. إنَّ الله يربي شعبه لكي يخرج من عبودياته ويختبر العبور من الموت إلى الحياة. كعريس يجذبنا إليه مجددًا، ويهمس كلمات حب لقلوبنا. إنَّ الله لم يتعب منّا. لنستقبل زمن الصوم كالزّمن القويّ الذي تُوجَّه فيه كلمة الله إلينا مجدّدًا: "أَنا الرَّبُّ إِلٰهُكَ الَّذي أَخرَجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة". إنّه زمن ارتداد، وزمن حرّيّة". لا يريدنا الله أن نعبده كمُستعبَدين، بل أن نحبّه كأبناء، وكأبناء، نأتي إليه نسأل ونطلب ونقرع بابه: "إسألوا تُعْطَوا، اطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتَحْ لكم". إنَّها دعوة مميَّزة لنيل عطايا الآب السماوي مؤيَّدَةً بوعدٍ من فم ابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح، بأنَّ كلّ من يسأل ينال. لقد سمعنا أو قرأنا هذه الكلمات عدّة مرّات، أكان في القداس الإلهي، أو في خلوةٍ روحية، أو عند قراءتنا الكتاب المقدَّس. أصبحت تلك الكلمات شائعة، ويمكن أن تفقد تأثيرها ما لم نتعمَّق بحقيقة كلّ ما تعنيه.
تابع صاحب الغبطة يقول يتفهّم الربّ يسوع احتياجاتنا ورغباتنا وكلّ ما نريده، فكيف لا نلمس تأكيد يسوع أنَّه يسمعنا نطرق الباب ويرانا ونحن نبحث عنه؟ لا نجد هذه الآيات في مكان واحد في الكتاب المقدّس، إنّما في كلّ صفحة منه. ففي إنجيل القديس يوحنّا مثلاً يقول لنا: "مهما سألتم باسمي فذلك أفعله". ثمَّ يؤكّد ذلك مرّة أخرى: "إن سألتم شيئاً باسمي فإنِّي أفعله"، وأيضاً: "إن ثبتُّم فيَّ وثبتَ كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم". يُظهِر لنا يسوع في هذه الآيات كم هو متشوّق أن نسأله عمّا نرغب به ونتمنَّاه في قلوبنا: "إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً". هذه الكلمات فاه بها يسوع لتقوّي إيماننا وتجعله منبعاً للفرح والرجاء والثقة الكاملة بوعوده الإلهية. يعبّر آباؤنا السريان عن الرغبة العميقة والصادقة لدى المؤمنين بقرع باب الرب وهم ممتلئون ثقةً باستجابته طلباتهم: "باب مَن نقصدُ ونقرع غيرَ بابك يا ربّنا الحنون. فمَن لنا ليشفع بجهلنا غيرُ مراحمك، أيّها الملك الذي يسجد الملوك إكراماً له".
 
أضاف البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان يقول "اسألوا... اطلبوا... إقرعوا..." هي درجات الإصرار واللجاجة في الصلاة: فدرجة "إقرعوا" هي أعلى درجة، هي درجة الصراخ لله ليفتح لنا. والعجيب أنَّ الله صوَّر نفسه هكذا صارخاً أو قارعاً لنفتح له قلوبنا: "هاءنذا واقفٌ على الباب أقرعه، فإن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، دخلتُ إليه وتعشَّيتُ معه وتعشّى معي". فإن كان المسيح يقرع هكذا على أبواب قلوبنا، أفلا نثابر ونقرع ونصلّي إليه بإلحاح! الله نفسه يدعونا أن نطلب، ولأنَّه "الخير المُطلَق" يودّ أن يمنح خيراته وعطاياه للمؤمنين به وبقدرته ومحبّته الفائقة الوصف. يقول القدّيس أوغسطينوس: "لكي تفهم ما يُقصَد بالسؤال والطلب والقرع، نفترض وجود رجل أعرج. فمثلُ هذا يُعطَى أولاً الشفاء، أي القدرة على المشي.. وهذا ما قصده الربّ بالسؤال. ولكن ماذا ينتفع بالمشي أو حتّى بالجري إن استخدمه في طريق منحرف؟ لذلك فالخطوة التالية هي أن يجد الطريق المؤدّي إلى الموضع المطلوب.. وهذا ما قصده بالطلب. لكن ما المنفعة إن صار قادراً على المشي وعرف الطريق، بينما كان الباب مغلقاً.. لهذا يقول: اقرعوا".
 
تابع صاحب الغبطة يقول فإن كان من لا يرغب في العطاء، قد أعطى بسبب اللجاجة، فكم بالأكثر يعطي ربّنا الصالح الذي يحثّنا على الطلب منه؟! قد يُبطِئ الله في الاستجابة والعطاء لكي نُقدِّر قيمة الأشياء الصالحة، وليس لعدم رغبته بذلك. فما نشتاق إلى نيله بجهد ومثابرة، نفرح جداً عندما نحصل عليه، أمَّا ما نناله سريعاً فنحسبه شيئاً زهيداً. بحسب العادة، يطلب المحتاج ممَّن يقدر على مساعدته، فإذا كان القادر مُحِبّاً للعطاء، فإنَّه يعطيه بسرور وبلا تردُّد. أمَّا ما يفوق ذلك، فهو أن يسعى القادر نحو المحتاج داعياً إيَّاه أن يطلب وبلا حدود، واعداً إيَّاه بأنَّه مهما سأل سوف يأخذ وينال! فهكذا أحبَّ الله العالم، حتَّى أنَّه على أتمّ الاستعداد أن يعطي وبلا حدود - إلى درجة أنَّه بذل ابنه الوحيد- لأجل خلاصنا. إنّه عطاء المحبَّة الذي يفوق كلَّ توقُّعات المحتاج الذي يطلب ويسأل.
 
أضاف البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان يقول الله يريد منّا أن نطلب الأشياء التي لا تفنى، لا تلك الفانية. يريد منّا أن نبتغي محبَّته كي تعمل فينا بقوَّة، فتزداد معرفته في عقولنا ومحبّته في قلوبنا، لنحظى بميراث الملكوت الأبدي. يريد منّا أن نطلب القوَّة والمعونة لنغلب الشرّ والخطيئة، وأن نطلب الامتلاء بالروح القدس طوال مسيرتنا على هذه الأرض، فتفيض فينا مواهبه وعطاياه لمنفعة ذواتنا وإخوتنا. والرب يسوع نفسه يؤكِّد حصولنا على هذه المواهب عندما نسأل أو نطلب من الآب باسمه، أو منه هو مباشرةً، أو من الروح القدس باسمه. وهكذا ندرك أهمّية الصلاة في حياتنا، فهي تقوّي علاقتنا بالله، وتزيّننا بالفضائل، وتعزّز خدمتنا لأجل ملكوت الله، كما توطّد علاقاتنا بإخوتنا وأخواتنا، وتؤول إلى بنيان الكنيسة. فالصلاة ليست فروضاً نؤدّيها بلا روح ولا عاطفة، بل هي مناجاة الأبناء إلى أبيهم السماوي، مصدرِ الخير والبركة، وهي نموٌّ مستمرٌّ في محبّته واغتناءٌ من روحه القدوس.
تابع صاحب الغبطة يقول وها هو القديس مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، يؤكّد على خصائص الصلاة المقبولة لدى الله: "فليكن فمك مجمرة (مبخرة) ولتكن شفتاك رائحة ذكية (بخوراً)، وليكن لسانك شمّاساً، فيرضي الألوهة". هذا ما علينا أن نعيشه في زمن الصوم الكبير، فنعمل على تجديد علاقتنا بالله من خلال الصلاة والصوم وأعمال التوبة، وعلى تجديد علاقتنا بالقريب من خلال القيام بأعمال الخير والمحبَّة والرحمة. فزمن الصوم هو زمن العمل. "وفي زمن الصوم الأربعيني، العمل هو أيضاً أن نتوقّف، لنصلّي، لنتقبَّل كلمة الله، ونتوقَّف مِثلَ السامري، أمام أخينا الجريح. محبّة الله ومحبّة القريب هي محبّة واحدة. نقف في حضرة الله ومع قريبنا"، على حدّ قول قداسة البابا فرنسيس في الرسالة عينها بمناسبة زمن الصوم ٢٠٢٤. إنَّ الصلاة والصوم والصدقة ليست ثلاثة أعمال منفصلة، بل هي فعلٌ إيماني واحد. إنّها انفتاحٌ على الآخر، وتجرُّدٌ ممّا في داخلنا، للمثول أمامَ الله، وعيش الأخوّة مع الآخرين، أخوّة نابعة من إيماننا المسيحي، وليست مجرّدَ تضامنٍ بشري مع الإنسان المُهمَّش.
 
وختم البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي رسالته بالقول أيّها الأحبّاء، لِنَسْعَ في هذا الصوم ألا تكون توبتنا توبةً تُحزِن يسوع. فهو يقول لنا: "لا تُعبِّسوا كالمُرائين، فإنَّهم يُكلِّحون وجوههم، ليظهر للناس أنَّهم صائمون". بل، ليرتسم الفرح على وجوهنا، وليَفُحْ منَّا عطر الحرّية، ولنُطلِق سراح الحبّ الذي يجعل كلّ شيء جديداً، ولنبدأ بأصغر الأمور وأقربها. ختاماً، نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وتوبتكم وصدقتكم، ويؤهّلنا جميعاً لنحتفل بفرح قيامته من بين الأموات. ونمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية.