بقلم: د.عبدالخالق حسين
تنبأ صدام حسين "أن الذي يحكم العراق من بعده سيستلمه أرضاً بلا بشر". وسبب اعتقاده بهذا المصير الأسود للعراق من بعده، هو أن حزب البعث بقيادته عمل خلال 35 سنة من حكمه الجائر على تحويل المجتمع العراق إلى مجتمع غير قابل للحكم إلا بالقبضة البعثية الصدامية الحديدية. ولحد وقت قريب، ورغم تداعيات سقوط حكم البعث، كنا نعتقد أن الشعب العراقي، بقيادة ساسته على مختلف انتماءاتهم، قد نجحوا في منع تحقيق هذه النبوءة السوداء.
ولكن التصعيد الأخير في الأزمة بين الحكومة الفيدرالية بقيادة المالكي، وحكومة الإقليم الكردستاني بقيادة البرزاني، وما يرافقه من تحشيد وتحريض وانقسامات وافتراءات وإشاعات، وحملات إعلامية تسقيطية بشعة، يشير إلى احتمال كبير تحقيق هذه النبوءة الصدامية.
كنت متفائلاً جداً بالسيد مسعود البرزاني، معتقداً بحرصه على إنجاح الديمقراطية في العراق الموحد، خاصة بعد ما قرأت له عن حبه وتقديره للزعيم عبدالكريم قاسم وثورة 14 تموز، وموقفه الناقد للقيادة الكردستانية في مرحلة ثورة تموز، حيث قال بحق: "...كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل، والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم..."
صحيح أن المالكي ليس عبدالكريم قاسم، فلكل زمن رجال وأساليب حكم، ولكن لو تأملنا الوضع جيداً لوجدنا الجهات التي تكالبت على العراق في عهد الزعيم قاسم، وقادت إلى كارثة 8 شباط 1963، هي نفسها متكالبة اليوم على العراق وتحت واجهات وأسباب مختلفة ولكنها تهدف إلى نفس المصير، أي تدمير العراق.
فهاهو الابن (مسعود) يسير على خطى الأب (الملا مصطفى)، في تحالف مع نفس الأعداء السابقين الذين أطاحوا بثورة تموز، لإعادة نفس الغلطة الكبرى، وبالتأكيد ستجلب نفس النتائج الكارثية على الجميع.
ليس هناك عراقي منصف ينكر ما نال الشعب الكوردي من ظلم وإجحاف وحروب إبادة على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة قبل 2003، وخاصة حكم البعث. ولكن، هل الشعب الكوردي وحده تعرض للظلم، مع الاختلاف بالدرجة، من هذا الحكم الفاشي الجائر؟ ولماذا يحاسب السيد بارزاني الحكومة الديمقراطية اليوم بجرائم حلبجة والأنفال وغيرها التي ارتكبها حكم البعث؟ وهل دور الكورد في الحكومة الاتحادية الحالية هو للديكور فقط كما كان في عهد صدام، أم هو شريك أساسي وفعال؟
لا ندعي أن الوضع الحالي هو مثالي، ولا يمكن أن يكون كذلك بعد عشرات السنين من الظلم والقهر والاستلاب، والتخريب والتجهيل المتعمد، ولكن هل المطلوب إصلاح الوضع بالتعاون والنقد البناء، أم بإشعال الحروب لحرق العراق وتدميره كما تنبأ به المجرم صدام حسين؟
الجميع يطالبون المالكي بالقضاء على الإرهاب والفساد وإلا فهو ضعيف، ويطالبونه بالتخلى عن المنصب لغيره أكثر كفاءة!!ّ ولكن في نفس الوقت يرفض هؤلاء السادة، وفي المقدمة منهم، السيد مسعود بارزاني، تسليح الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، وحرية حركة القوات المسلحة لملاحقة فلول الإرهاب، بحجة أنهم لا يريدون تكرار الأنفال وحلبجة!
والآن اتخذوا من ورقة الفساد ذريعة لوضع العراقيل أمام تسليح الجيش العراقي، خاصة وأن ذهنية الشعب العراقي صارت جاهزة لتقبل أية إشاعة عن الفساد وضد أيٍ كان، وبذلك يتم حرق الأخضر بسعر اليابس وتصفية الخصوم بهذه الذريعة. إذ ما أن تعقد الحكومة أية صفقة في هذا الخصوص مع أية دولة إلا وشهروا هذه الورقة بوجهها، سواءً كانت التهمة صحيحة أو كاذبة، ستبقى سيفاً مسلطاً على رقبة الحكومة لمنع تسليح الجيش وإبقائه ضعيفاً مشلولاً إلى الأبد. والجدير بالذكر أن رئيس الحكومة نوري المالكي، أكد الخميس 29/11/2012، "عدم وجود دليل قاطع عن الفساد بشأن صفقة الأسلحة الروسية.."، وانه "سيتابع هذا الموضوع حتى يتم الحصول على دليل بشأن ذلك".
ولكن، في نفس الوقت يسعى السيد مسعود البارزاني إلى تسليح جيشه البيشمركة، ومطالبة الحكومة المركزية بدفع نفقات تسليحه وميزانيته ودون أن يكون هذا الجيش خاضعاً لقيادة المركز. والجدير بالذكر أن قوات البيشمركة استحوذت على جميع الأسلحة الثقيلة والخفيفة للجيش العراقي بعد انسحابه من كردستان حين إعلان منطقة الملاذ الآمن عام 1991، وترفض إعادتها للحكومة المركزية.
ولم يكتف السيد مسعود بعرقلة تسليح الجيش العراقي فحسب، بل ويأوي قادة الإرهابيين من أمثال طارق الهاشمي وغيره، ويجعل من الإقليم مرتعاً لإيواء الفاسدين واللصوص من أمثال حازم الشعلان وغيره الذين فروا إلى الخارج عبر كردستان. وهناك تقارير تفيد أن ما يسمى بـ"المناطق المتنازع عليها" صارت ملاذاً آمناً للإرهابيين يشنون منها عملياتهم الإرهابية على بقية مناطق العراق عدا كردستان. وإذا ما حركت الحكومة المركزية بعض قواتها مثل قوات عمليات دجلة لملاحقة الإرهابيين في هذه المناطق، قامت قيامة حكومة الإقليم، وادعت أن هذه العمليات هي موجهة ضد الشعب الكوردي، ولن يسمحوا لها أن تمر. والملاحظ، أن السيد بارزاني صعَّد من لهجته في التوتر بين الإقليم والمركز، إذ راح يسمي المناطق المتنازع عليها بـ"المناطق المستقطعة".
والمؤسف حقاً أنه حتى السيد رئيس الجمهورية لم يسلم من الانحياز في الصراع بين المركز والإقليم، إذ نشر تصريحاً له اعتبر فيه عمليات دجلة ضد الشعب الكوردي، وإذا ما رد أحد مساعدي رئيس الوزراء على اتهامات البارزاني وقف السيد طالباني مع البارزاني ضد من يرد عليه. بينما المطلوب من رئيس الجمهورية أن يكون رئيساً لكل العراق والعراقيين، ويقف على مسافة واحدة من القوى المتصارعة والعمل على حل الخلافات بينهم، لا أن ينحاز إلى هذه الجهة ضد جهة أخرى بدوافع قومية. كذلك نلاحظ أن زيارات رئيس الجمهورية مخصصة للمدن الكردستانية فقط، إذ لم يقم بأية زيارة لأية مدينة عراقية عربية.
والجدير بالذكر، أن السيد البارزاني يرفض عملياً اعتبار إقليم كردستان خاضعاً للدولة العراقية الفيدرالية حيث جعل من الاقليم دولة منافسة للدولة العراقية، لذا قام بعقد الصفقات مع الشركات النفطية الدولية الكبرى مثل شركة أكسون موبيل الأمريكية المعروفة، تحقق أرباحاً مغرية لها على حساب العراق والإقليم، الأمر الذي كلف الخزينة المركزية مليارات الدولارات دفعتها الدولة لعقود خاسرة أبرمتها حكومة الإقليم خلافاً للدستور. وعلى أثر هذه الصفقات، قال السيد بارزاني مهدداً الحكومة المركزية: أن "شركة أكسون موبيل لها قوة تعادل عشر فرق عسكرية وإذا دخلت بلداً فلا تغادره". ما كنا نتمنى على السيد مسعود أن يطلق مثل هذه التصريحات، الغرض منها ابتزاز الحكومة الفيدرالية والإستقواء بهذه الشركات، فهذا يعني أنه اتخذ نفس موقف والده حين تحالف مع الشركات النفطية التي ساهمت في الإطاحة بالزعيم عبدالكريم قاسم بعد إصداره قانون رقم ثمانين لعام 1961... والنتائج باتت معروفة للجميع.
كذلك، قيام السيد بارزاني بالوقوف مع الدول التي تعمل على إفشال العملية السياسية في العراق مثل تركيا وقطر والسعودية. وهنا نود أن نسترعي انتباه السيد رئيس الإقليم إلى ما صرح به القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، السيد عادل مراد: "علينا ان لا ندير ظهورنا لرفاق الأمس و حلفاء اليوم بل علينا ان نعزز اواصر علاقاتنا و العمل معا للقضاء على الإرهاب المصدر الينا من دول باتت معروفه بعدائها لديمقراطيتنا الفتيه في العراق... والأهم هو ان نكون يقظين لمنع اية محاوله لجر قضيتنا الكردية الى مهالك الحروب الطائفيه التي بدأت تحرق الأخضر و اليابس في منطقتنا.. ان قضية شعبنا الكردي قضية سياسية لا ربط لها بمسائل طائفيه مقيتة ... لا احد يعلم الى اين تنتهي. انها حرب خطيرة و كارثية لن ينجو منها احد. انها مؤامرة مدمره تمولها و بقوه كل من السعوديه و قطر و تركيا... "
من المؤسف أن يقف البارزاني مع الثلاثي (السعودية وقطر وتركيا) لتدمير العراق، لا شك أنه يعتبر موقفه هذا تكتيكاً سياسياً ذكياً بتطبيق المبدأ المكيافيللي:(الغاية تبرر الوسيلة)، وأنه بعد الإطاحة بحكومة بغداد وإضعافها، سيضحك عليهم، تماماً كما اعتقد صدام أنه يستخدم أمريكا لأغراضه في حربه ضد إيران، ومن ثم سيضحك عليها!! فيا ترى، من ضحك على من في النهاية؟ وأين صدام الآن، ولماذا لا يستخلص السيد مسعود بارزاني الدروس والعبر من أخطاء صدام ومصيره الأسود؟
مشكلة العراقيين أن كل منهم يريد أن يكون رئيساً. وهذه الحقيقة أدركها الحاكم المدني الأمريكي لقوات التحالف، بول بريمر، لذلك جعل لمجلس الحكم رئيساً في كل شهر لإشباع رغبتهم في السلطة. فكيف يمكن حكم العراق وهذه سايكولوجية ساسته؟ هناك نحو أربع كتل سياسية كبيرة مشاركة في الحكم، وكل كتلة تضم العشرات من التنظيمات السياسية المتنافسة فيما بينها، ورئيس كل تنظيم يسعى لتدمير منافسه على أمل أن يستلم الموقع الأول في الحكومة، وحتى قادة التنظيمات من نفس كتلة رئيس الوزراء يسعون للإطاحة به على أمل أن يحتلوا مكانه. لذلك نسمع هذه الأيام مغازلات من الدكتور عادل عبدالمهدي وباقر صولاغ جبر للبارزاني لكي يفوزوا بموافقته في حالة ترشيحهم إلى المنصب. ولا أدري، هل يقبل أي من هؤلاء فيما لو احتل منصب رئاسة الحكومة الفيدرالية، أن يكون تحت رحمة رئيس حكومة الإقليم، مكبل اليدين، ويبقي الجيش العراقي ضعيفاً، وبلاده مرتعاً للإرهاب والفساد، ويزاح من رئاسة الحكومة متى ما غضب عليه السيد البارزاني؟
وختاماً نقول، المطلوب من السيد مسعود البارزاني أن يستفيد من دروس الماضي، وأن لا يتأثر بما يدبج له وعاظ السلاطين الإنتهازيين من مقالات تشجيع على نهجه التدميري. ففي الوقت الذي نرى فيه أن من مصلحة الشعب الكوردي أن يبقى ضمن الفيدرالية العراقية، ولكن إذا ما شاء هذا الشعب وقيادته السياسية تحقيق طموحه في قيام دولته القومية، وهذا من حقه، فنحن نبارك لهم دولتهم، ولكن نطالبهم أن يتم ذلك بالطرق السلمية. إلا إنه من المؤسف، أن السيد مسعود بارزاني ومؤيديه في القيادة الكردستانية يعتقدون أن من مصلحة الشعب الكوردي تدمير الدولة العراقية وتفتيتها وجعلها هزيلة لا حول لها ولا قوة، لتكون لقمة سائغة لدول الجوار. أما في حالة بقاء كردستان مع الفيدرالية لإعتقادهم أن الظروف الدولية لا تساعد على الإنفصال، ففي هذه الحالة يريد السيد بارزاني أن تكون حكومة بغداد خاضعة لإرادة حكومة الإقليم، وهو الذي يقرر من يترأس حكومة المركز، ويزيحه متى شاء.
يجب أن يتم تحقيق طموح الشعب الكردي بالطرق السلمية وليس عن طريق تحقيق نبوءة صدام حسين بحرق العراق والتحالف مع أعدائه ضد حكومة بغداد، لأن جميع الذين أشعلوا الحرائق في العراق من أمثال بشار الأسد، ومحمود أحمدينجاد وغيرهما انتقلت النيران إلى بلادهم. فهاهي سوريا صارت نسخة من الصومال، وهذه إيران تواجه نفس الحصار الاقتصادي الأممي الذي واجهه صدام حسين قبل سقوطه. لذا أرجو أن لا يعتقد أي زعيم سياسي من العالم الثالث أنه يستطيع أن يضحك على أمريكا وحلفائها ويجيرها لمصلحته.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع