نيفين مسعد
أشار مقال الأسبوع الماضى إلى وجود ثلاثة معوّقات تعترض العراق'> الانسحاب الأمريكى من العراق، واستعرض المقال المعوّق الأول المتمثّل فى ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط نتيجة مجموعة من العوامل المعقّدة والمتناقضة, تجعلها غير قادرة على حسم موقفها من قرار الانسحاب. وفيما يخّص المعوّق الثانى فإنه ينبع من الفصائل العراقية المسلّحة ومواقفها من ضرب الأهداف الأمريكية، وهو الأمر الذى يمكن أن تتذرّع به الولايات المتحدّة من أجل المماطلة فى تنفيذ الانسحاب. وعندما نتحدّث عن هذه الفصائل المسلّحة فإننا فى الواقع نتحدّث عن مجموعة من الكيانات التى يكتنف الغموض ظروف نشأتها وهيراركيتها وعلاقاتها الداخلية وعلاقاتها ببعضها البعض. لكن فى حدود ما هو مُعلن ومعلوم فإن أبرز الفصائل التى كثّفت هجماتها على أهداف أمريكية فى العراق وسوريا كتائب حزب الله وحركة النجباء وكلتاهما تدخلان مع فصيلين آخرين فى تشكيل ما يُسمّى بالمقاومة الإسلامية فى العراق، ولذلك فإن الضربات العسكرية الأمريكية تستهدفهما بشكل أساسي.وعندما وصل الأمر فى إطار سياسة الفعل وردّ الفعل إلى قيام هذه المقاومة الإسلامية بمهاجمة القاعدة الأمريكية على الحدود السورية - الأردنية -وجد العراق نفسه فى وضع جِدّ خطير بحكم الطبيعة النوعية للهجوم وما تفترضه بالتالى من ردّ نوعى أمريكى قوى ومختلف عما سبقه. وفى مواجهة احتمالات التصعيد الأمريكى فى العراق تباين الموقفان الرسميان المعلنان لكلٍ من حركة النجباء وكتائب حزب الله، ففى حين توعّدت الحركة بمواصلة ضرب الأهداف الأمريكية لحين وقف العمليات على غزّة والانسحاب الأمريكى من العراق، أعلنَت الكتائب تجميد عملياتها العسكرية وبررت ذلك برفع الحرج عن الحكومة العراقية مع تعهّدها باستمرار الدفاع عن أهل غزّة بطرقٍ أخرى لم تحددها فى البيان. هذا التباين فى حد ذاته يُعّد أمرًا مثيرًا للبلبلة لكون الفصيلين المسلّحين المذكورَين وثيقى الصلة بايران، وبالتالى فكون أحدهما يتبنّى التهدئة والآخر يواصل التصعيد فهذا يضعنا أمام احتمالات ثلاثة، الاحتمال الأول هو توزيع الأدوار بينهما بالتنسيق مع إيران، والاحتمال الثانى هو تمرد حركة النجباء على رغبة إيران المعلنة بعدم توسيع نطاق الحرب، أما الاحتمال الثالث فهو أن تكون تهدئة كتائب حزب الله للاستهلاك الإعلامى فقط لا غير.لكن أيًا كان التفسير فسوف تتمكّن الولايات المتحدة من توظيف تهديدات حركة النجباء بمواصلة التصعيد من أجل إطالة وجودها فى العراق.جدير بالذكر أن حركة النجباء ترفض أصلًا الإطار الذى جرت فيه عملية التفاوض على انسحاب قوات التحالف الدولى من العراق قبل توقّفها، وترى أن هذا الإطار أضيق من أن يلبّى هدفها الأكبر والمتمثّل فى تصفية التركة الأمريكية السلبية منذ عام ٢٠٠٣ فى سوق الطاقة والسلاح والاستثمار..إلخ، وهو ما يعنى إعادة تشكيل العلاقات بين البلدين بشكلٍ كامل، فإلى أى مدى يمكن أن تقبل الولايات المتحدّة بالخروج من العراق على هذا النحو؟ سؤال مهم.
المعوّق الثالث ينبع من إقليم كردستان، والعلاقة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية هى قضية شديدة الحساسية ولا تقّل من حيث درجة تعقيدها عن قضية الفصائل الشيعية المسلْحة، وهناك العديد من المظاهر التى تُظهر تصرّفات الإقليم باعتباره دولة كردية مستقلة وليس إقليمًا فيدراليًا داخل الدولة العراقية حاله من حال سائر الأقاليم المماثلة فى الدول التى تأخذ بالنظام الفيدرالي.وفيما يخّص موضوع انسحاب قوات التحالف الدولى من العراق، صرّح مسرور برزانى رئيس وزراء الإقليم فى شهر يناير الماضي، فى بيانٍ علنيٍ, بقوله إن من المهم الحفاظ على الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، وهذا بيان يصطدم بالسياسة المعلنة للحكومة المركزية بشكلٍ مباشرٍ. ويمكن تفسير بيان برزانى بعوامل مختلفة، أبرزها الخوف من تزايد الهجمات الإيرانية والتركية على أهداف داخل الإقليم تحت ذرائع متعدّدة،منها وجود بؤر للتجسس لحساب جهاز المخابرات الإسرائيلية، ومنها إيواء متمردين مسلّحين أكراد ينفّذون أعمالًا إرهابيةً ضد كلٍ من تركيا وإيران، ومنها تجدّد خلايا تنظيم داعش التى مازالت موجودة فى العراق. وفى ظل هذه الصورة يمكن التفكير فى إمكانية قيام الإقليم بعقد اتفاقية خاصة مع قوات التحالف الدولى للإبقاء على وجودها العسكرى داخل الإقليم، وهناك بالفعل واحدة من أهم القواعد العسكرية للتحالف مقرّها فى مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، وتلك هى قاعدة حرير.ورغم أنه قد يقال إن هذا التصرف إن حدث سوف يصطدم بقواعد النظم الفيدرالية التى تجعل ملّف السياسة الخارجية من الأمور السيادية للدولة، إلا أن كون الإقليم يحتفظ بجيش خاص به يوازى الجيش الوطنى، وكون أن له مكاتب تمثيل فى الخارج، ويحتكر عوائد النفط لنفسه دون سندٍ من دستور أو قانون، جميعها أيضًا تصرفات تصطدم بقواعد النظم الفيدرالية، وربما يمكن التفصيل فى هذه الحالة الفريدة فى علاقة المركز بالإقليم فى مقالٍ لاحقٍ.
خلاصة القول، يبدو أن سفينة المفاوضات العراقية - الأمريكية تُبحر عكس التيار،ودون وصولها إلى برّ الأمان بالاتفاق على الانسحاب وإنجازه بسبب شدّة العواصف، هذا كله دون إدخال احتمال قيام الولايات المتحدّة بتوجيه ضربة عسكرية مباشرة لإيران فى الحسبان وما سيترتب على ذلك من ردّ إيرانى عنيف، وهذا الاحتمال وإن كان من الصحيح أنه مستبعد بمنطق الرشادة السياسية، إلا أن السياسات الخارجية للدول لا تحكمها بالضرورة مقتضيات العقلانية والرشادة، خصوصًا لو جرى انتخاب دونالد ترامب رئيسًا لأمريكا. السيناريو الآخر هو أن تلحق بالقوات الأمريكية فى العراق أو فى سوريا بأيادى فصائل عراقية هزائم نكراء متتالية تجعل تكلفة البقاء فى العراق تكلفةً باهظة جدًا، وهذا سيناريو سبق تنفيذه على سبيل المثال فى الصومال وأفغانستان، وبالتالى فإن تكراره فى العراق ليس بمستحيل.
نقلا عن الأهرام