سمير مرقص
(1) «باومان وتشوهات الجسم الاجتماعى السوقى/ الاستهلاكى»
نالت- ولحسن الحظ- كتابات الفيلسوف الألمانى من أصل بولندى «زيجمونت باومان» (1925 ــ 2017) الاهتمام بترجمة أعماله/ أفكاره؛ وذلك لأنه من أهم المفكرين المعاصرين الذين استطاع أن يرصد بدقة، ويشخّص بإبداع، ويعبّر بسلاسة عن أحوال الإنسان فى مجتمع الاستهلاك/ العولمة، من حيث: طبيعة العلاقات الاجتماعية، وكيف يبحث الإنسان المعاصر عن الأمان فى عالم غير آمن، وتداعيات ما تعرضت له العلاقات الإنسانية من تقطع للروابط الاجتماعية ومن ثم انهيار التماسك المجتمعى، وتراجع دور الدولة المعاصرة عن تأمين الرفاه والرخاء لصالح الضبط. ولاحظ أيضا الأثر البشع لهيمنة السوق على حياة المجتمعات، وما نتج عن ذلك من تشوهات بنيوية أنهكت الجسم الاجتماعى للمجتمعات المعاصرة، أصابته بالتشظى والتفكك.. ما أخرج الكثيرين من عضوية الجسم الاجتماعى، إذ تشكلت شريحة أطلق عليها «الفقراء الجدد» New Poor: هؤلاء الذين يكونون خارج أى حسابات للدولة والمجتمع (حسب ما كتبه «باومان» فى Work، Consumerism، &the New poor). فى هذا الإطار استطاع «باومان» أن يبلور نظرية متكاملة تحت عنوان «الحداثة السائلة» التى أصابت دول المركز الغربى/ الأوروبى بفعل النزوع الاستهلاكى المُفرط.. صحيح لم يكن الاهتمام بفكر/ وأعمال «باومان»، الذى أشرنا إليه، مؤسسيًا، إذ حمل مهمة ترجمته اثنان من الأكاديميين المصريين المعتبرين: أولهما الدكتور حجاج أبوجبر، وثانيهما الدكتور محمود أحمد عبدالله. عنى الأول بترجمة النصوص الخاصة بنظرية «السيولة» لدى «باومان»، إضافة إلى دراستين تأسيسيتين مبكرتين لـ«باومان» هما: (الحداثة والإيهام)، و(الحداثة والهولوكوست)، وقد صدرت كل تلك الترجمات فى العقد الثانى من الألفية الجديدة. وركز الثانى اهتمامه على ترجمة الدراسات والحوارات والرسائل الفكرية المتنوعة التى أنتجها «باومان».
وتبقى الإشارة للترجمة المبكرة التى قامت بها الدكتورة «فاطمة نصر» لكتاب «باومان» الأشهر: «مجتمع بلا روابط» مطلع العقد الثانى من القرن الجديد.
(2) «خمسة كتب مترجمة لباومان»
وسوف نلقى الضوء على الترجمات الأحدث التى أنجزها الدكتور «محمود أحمد عبدالله»، وصدرت فى عام 2022 عن دار شهريار، والتى بلغت خمس ترجمات (ونشير إلى تاريخ صدور طبعاتها الإنجليزية التى رجعنا إليها والتى تمت الترجمة عنها)؛ عناوينها كما يلى: (المجتمع الفردانى - 2001، أرواح مهدورة والهوية - 2004، 44 رسالة من عالم الحداثة السائلة - 2010، العمى الأخلاقى - 2013). تعكس هذه الكتب مسيرة «باومان» الفكرية على مدى زمنى ممتد منذ نهايات القرن العشرين وبدايات القرن التالى عليه، وتأسيسه ما أطلق عليه أحد كبار علماء الاجتماع المعاصرين البريطانيين «مارك ديفيز»: «علم اجتماع السيولة»؛ وهو العلم الذى تتبع ما آل إليه المجتمع الحداثى من لا يقين واختلالات حادة على جميع الأصعدة، بفعل هيمنة من أطلق عليهم «أهل الصيد» على أمور الحياة؛ هؤلاء من يديرون الأسواق وينظمون العملية الاستهلاكية الغرائزية بامتياز، ودأبهم المستمر على حشد جيوش المستهلكين فى أنحاء الكوكب على حساب الصالح العام، ما أدى إلى إطراد «تغلغل عمليات تسليع سبل العيش الإنسانى». إنها السيولة التى يجب أن يواجهها كل فرد بتضامنه مع باقى الأفراد فى «إضفاء معنى للحياة والغاية منها». ومن ثم إنقاذ «الأرواح المهدورة»، انطلاقا من المسؤولية التاريخية/ الاجتماعية لاكتشاف سبلٍ للعيش، «تلك الصخرة التى يجب أن ترتكز عليها مشاريع الحياة والتطلعات كلها حتى تكون مجدية».
(3) «فى تجديد المسؤولية الإنسانية»
فى ضوء ما سبق، يكتب كاتب المقدمة لكتاب «العمى الأخلاقى»: «ليس باومان عالم اجتماع نموذجيا فحسب، إنه فيلسوف الحياة اليومية. ينسج نسيج فكره ولغته معا بمجموعة متنوعة من الخيوط: النظرية الراقية، والأحلام والرؤى السياسية، وقلق وعذابات تلك الوحدة الإحصائية للإنسانية، الرجل والمرأة العاديان، والنقد الحاذق - والحاد كشفرة حلاقة لا ترحم - لأقوياء العالم، وتحليل اجتماعى لأفكارهم المُرهقة، وغرورهم وسعيهم الجامح للفت الانتباه ونيل الشعبية، وبلادتهم وخداعهم».. نحن أمام مفكر، كما يقول محرر كتاب «الهوية»، «يرى مبدأ المسؤولية هو أساس أى محاولة للانخراط فى الحياة العامة، بهدف تجديدها فى سياق مغاير يضمن الكرامة الإنسانية، ويبقى العالم قادرا على احترام خيارات أكثر إنسانية أمام الأفراد/ المواطنين، ويحول دون تحييد القيم والأخلاق، وبالتالى إعادة إنتاج نفايات السوق المدمرة للإنسانية»..
تحية لجهد خارق فى ترجمة جديد مفكر فذّ سعى لإيجاد بديل إنسانى لمواطنى العالم من الفقراء الجدد/ المنبوذين.. تحية للدكتور محمود أحمد عبدالله، ولكل من سار فى هذا الدرب.
نقلا عن المصرى اليوم