اليوم تحتفل الكنيسة بتذكار نياحة قداسة البابا كيرلس الرابع "ابى الإصلاح" الـ١١٠ (٢٣ طوبة) ٢ فبراير ٢٠٢٤
في مثل هذا اليوم تنيح الآب العظيم الأنبا كيرلس الرابع بابا الإسكندرية العاشر بعد المائة الملقب "بابى الاصلاح" ولد في عام 1532 ش. / 1816 م. بقرية نجح أبو رزقالي من الصوامعة سفلاق (الصوامعة الشرقية) أخميم، مديرية جرجا (محافظة سوهاج الآن) وكان اسمه داود بن توماس بن بشوت بن داود، وكان أبوه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، إلا أنه اعتنى كثيرًا بتعليم ابنه حتى صار مُلِمًّا بالقراءة باللغتين العربية والقبطية وشيء من الحساب، ولما كبر اشتغل داود مع أبيه بالزراعة، وفي هذه الأثناء اختلط بالعربان المجاورين لقريته، فتعلم منهم الفروسية وركوب الخيل والهجن (الجمال).
ومنذ نشأته لم يعبأ بمهام هذه الحياة كأن العناية كانت تجهزه لعمل أشرف ولغاية أعظم بل كان عفوفًا تقيًا وَرِعًا محبًا للفقراء، وكان يميل إلى العزلة والتفكُّر في سير القديسين
ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره أحب الرهبنة وعزم على الرحيل من وطنه فمنعه أبواه، ولكنه أصر على الرحيل وانتهز الفرصة وودع أصحابه وهرب سنة 1554 ش. إلى دير القديس انطونيوس في الوشن حيث توجه إلى عزبة الدير، وقابل هناك القمص أثناسيوس القلوصني رئيس الدير وعرض عليه نيته أن يكون راهبا، فظل فترة تحت الاختبار، ولما نجح في هذا الاختبار انضم إلى رهبان دير الأنبا أنطونيوس بجبل العربة بالصحراء الشرقية.
وقد أظهر محبة كبيرة للرهبان والذكاء والورع والميل لدراسة الكتاب المقدس، وكان يجمع أخوته الرهبان ويقرأ عليهم الكتاب المقدس ويشرحه لهم ويحببهم في دراسته، فسر منه رئيس الدير، ولما ذاع صيته بين الرهبان ووصل إلى آذان البطريرك البابا بطرس السابع، استدعاه إليه، ولما حضر بين يديه رأى فيه ما أكد له نبوغه وعبقريته فباركه ودعا له بالتوفيق وكان ذلك في حضور الأنبا صرابامون أبو طرحة أسقف المنوفية، ورسمه قسًا.
وبعد أن قضى الراهب داود سنتين في دير الأنبا انطونيوس تنيَّح القمص أثناسيوس القلوصنى رئيس الدير عام 1840، وعلى الرغم من حداثة عهد داود بالرهبنة، إلا أن الرهبان اجمعوا على تزكية رئيسًا للدير، ورفعوا الأمر إلى البابا بطرس فوافق على ذلك، ومنذ ذلك الحين بدأ يتألق بنور مواهبه، فوضع نظامًا للدير حرم به على الرهبان مغادرته إلا لضرورة قاطعة وأخذ في إصلاح أحواله الأدبية والمادية والروحية، وفي نفس الوقت وسع من ثقافته هو بالقراءة والدراسة والإطلاع.
و اهتم القس داود بدراسة اللغة العربية نحوًا وحرفًا، فاكتسب منها ما ضبط ألفاظه، كما عني بتعليم الرهبان، فخصص من العزبة بناحية بوش مديرية بنى سويف، التي كانت مقرا للدير مكانا جمع فيه كثيرًا من الكتب بالإضافة إلى ما كان موجودًا، ودبَّر حلقات للدرس والمناقشة في الموضوعات الدينية والأدبية والتاريخية على السواء، كما افتتح كتابا في بوش لتعليم الأولاد اللغتين العربية والقبطية.
و حدث لما اختلف الأحباش في بعض القضايا اللاهوتية والطقسية مع مطرانهم الذي كان البابا بطرس السابع قد رسمه في 20 أغسطس 1851 باسم الأنبا كيرلس، وإذ لم يستطيع الأسقف تقويم رعاياه حسب المفهوم الكنسي حرم عددا منهم، واعتدى بالضرب على الآخرين، فلما سمع البطريرك بذلك كتب إليه يأمره بالإقلاع عن هذا الأسلوب الجاف، وينصحه باستعمال الرأفة والليونة ولكن الأسقف لم ينجح في علاج الموقف، واستمر الوضع هكذا، حتى اغتاله رجل اسمه سبغيدس في مدينة عدوة بالحبشة، فأرسل إليهم البطريرك سنة 1841 مطرانا آخر هو الأنبا اندراوس وكان قد تعلم اللغة الإنجليزية في مدرسة ليدرس الإنجليزية بالقاهرة.
ولما وصل الأنبا أندراوس إلى إثيوبيا وجد المشاكل التي تركها سلفه متفاقمة، فكتب للبطريرك بطرس السابع يشرح له أوجه الخلاف، ويسأله المعونة في تصفية هذه المشاكل، فأرسل إليه القس داود رئيس دير الأنبا انطونيوس وحمله رسالتين واحدة للمطران والأخرى للشعب الإثيوبي (الحبشي) فسافر القس داود الصوامعي سنه 1851 واصطحب معه القس برسوم الانطونى الذي صار فيما بعد مطرانًا للمنوفية باسم الأنبا يؤانس، وقد حاول القس داود أثناء وجوده في الحبشة أن يحل المشاكل العقائدية القائمة بين المطران والشعب، وأن يضع حدًا حاسمًا لمشكلة دير السلطان الذي تتنازعه الكنيستان، إلا أنه لم يتوصل إلى تسوية قاطعه في كلا الأمرين، وكان للأسف للقنصل الإنجليزي يدًا في هذا النزاع، لدرجة أنه أثار النجاش عليه فأخر موعد عودته إلى مصر وضايقه إلى حد ما، ثم سمح بعد ذلك بالسفر، فعاد إلى القاهرة في 17 يوليو 1852 بعد أن قضى هناك سنه وبضعة أشهر.وفيما بعد نقم الأحباش على الأنبا اندراوس فأودعوه السجن حيث ظل فيه إلى أن تنيَّح بسلام 1867.
و كان قداسه البابا بطرس السابع قد وعد القس داود بترقيته إلى رتبة المطران إذا نجح في تسوية المشكلة الإثيوبية، ولكن داود عاد إلى القاهرة بعد نياحة البابا باثنين وسبعين يومًا، ووجد الشعب يعمل لترشيح بطريرك جديد، وقد انقسمت صفوفه إلى ثلاثة أحزاب هي:
الحزب الأول: كان ينادى بترقية الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم إلى رتبة بطريرك.
الحزب الثاني: قال بصلاحية القس داود الصوامعي إلى منصب البطريركية على أساس توصيه البابا الراحل بذلك.
الحزب الثالث: رأى أن الأنبا أثناسيوس أسقف أبو تيج هو رجل المهام الصعبة الذي يليق بالموقف الراهن حينئذ.
وقد تزعم أنصار أسقف أخميم الأرخن "جاد افندى شيحة" وآخرون من وجهاء الأقباط الذين عمدوا إلى ترديد شائعة تقول "أن أصحاب الدجل وعلوم المطالع يؤكدون انه لو صار داود بطريركًا فسوف يكون قدومه شؤما على الحاكم والمحكومين!!
ولكن هذه الأمور وغيرها لم توهن من عزيمة أنصار القس داود، بل أخذوا يزدادون نفوذًا وعددًا، حتى أصبحوا يمثلون صوت الشعب القبطي برمته، وخدمتهم الظروف بانسحاب الأنبا أثناسيوس من المعركة.
أما أتباع أسقف جرجا فلما رأوا أن فوز مناهضيهم قد أًصبح وشيكا، ادعى عميدهم أنهم اخذوا أمرا شفويًا من عباس باشا الأول بتنصيب أسقف أخميم بطريركًا وتأهبوا لرسامته يوم الأحد الموافق 10 ابريل 1853، ولكن أنصار القس داود أصرّوا على رسامته رغم وقوف عباس الأول في صف الآخرين خصوصا بعد أن أرجفوه بما قاله الدجالون من أن رسامته مستجلب الخراب على البلاد.
ولما كاد الشقاق يستعلى استعان أنصار القس داود بالمستر ليدر أحد مرسلي جمعية التبشير الإنجليزية وطلبوا منه التوسط لدى قنصل انجلترا في مصر لتعليم عباس الأول في قبول القس داود بطريركا، وفعلا كلمه فوعد ولكنه ماطل في وعده حتى قدم من الحبشة قس حبشي ومعه كثير من الهدايا وكتاب من النجاش لعباس باشا، فقابله عباس ومكث الرجل لدية أياما، فأشيع أيامها أن القس داود سار إلى بلاد الحبشة ليستعين هو وأتباعه بالنجاش على الخروج على طاعة عباس، فاستدعى القس داود إلى دار المحافظة واستجوب في شأن هذه الإشاعة على ما كان بينه وبين نجاش الحبشة، وكان الباشا قد أمر أن يذهب به إلى مجلس الأحكام بقلعة الجبل، فكانوا يأتون أمام المجلس كل يوم مرة أو مرتين، ويضيقون عليه الخناق في التحقيق، أما هو فكان هادئا ثابتا يتكلم برزانة وتعقل، فاغتاظ عباس باشا، واشتد غضبه على الأقباط، فأمر بفصل الموظفين منهم من خدمة الحكومة، ونفي الأعيان منهم إلى ستار في السودان ودارفور، وأذل الباقين في مصر كلها وعاشت الكنيسة والشعب في اضطهاد رهيب. فاستدعى بعد ذلك كتخدا باشا (في مرتبة رئيس الوزراء الآن) جاد أفندي شيحة وأعلمه برغبة الباشا في اختيار بطريرك غير القس داود، وطلب منه التعجيل في ذلك خشية تدخل القنصل الإنجليزي، فجمع جاد أفندي الأساقفة وعرض الأمر: فكثرت آرائهم وحججهم، في الوقت الذي اتفق فيه حزب أسقف أخميم على تنفيذ رغبتهم بالحيلة. وكانت حيلتهم أنهم يجتمعون ليلًا في دير ليرسموه بطريركًا، فإذا أصبح الصباح وجد أنصار القس داود أن السهم قد نفذ، فيرضخون مكرهين أمام الواقع، وكما قبل من قيل أن جاد أفندي شيحة قد حصل على أمر شفهي من عباس الأول برسامته.
فاجتمع الأساقفة بالدار البطريركية ويتبعهم الغوغاء سرا ومعهم أسقف أخميم وجاد أفندي وبعض أقاربه، وأغلقوا عليهم الأبواب، ووضعوا عليها حراسًا، وبدأوا يتممون الرسامة في الداخل سرا، ولكن حيلتهم لم تتم. إذ بينما هم كذلك ظهر أحد العميان العرفان وجعل يطوف في شوارع المسيحيين والحارت والأزقة وينادى أن قوموا من نومكم يا قوم، ففي هذه اللحظة يتممون رسامة أسقف أخميم. وظل ينادى ويصيح حتى استيقظ الناس وانطلقوا مسرعين إلى الدار البطريركية فتصدى لهم الحراس فاقتحموا الأبواب، وكثر الهياج، وكان في البطريركية بعض الأحباش نيام فاستيقظوا وسألوهم الخبر، فأوعزوا إليهم بإخراج الأساقفة من الكنيسة بالقوة، فأمسكوا القس وكسروا أبواب الكنيسة، واخرجوا الأساقفة رغمًا عنهم، واختلطت الأصوات وتعالى الصياح، واستمر الهياج خارج الكنيسة وداخلها وفي الشوارع المؤدية إليها حتى مطلع الفجر!!
ولما خابت جهود المتشعين (المُناصِرين والذين وراءه) للأسقف جعلوا يختلقون الأقاويل على القس داود، فأشاعوا انه في مدة إقامته بالحبشة تزوج من امرأة حبشية وله منها ولدان، وكان أصل هذه الإشاعة قسيس حبشي كان مغتاظا منه بسبب ما ذهب إلى الحبشة من أجله، وكان قد أتى ليشي به بهذا القول إلى البطريرك ليعطل رسامته فوجده قد تنيَّح، ولما استقصى الناس عن حقيقة هذا الإشاعة أتضح كذب القس الحبشي.
ورأى القنصل الإنجليزي أن الفتنة كادت تعم، فحذر عباس باشا من سوء العاقبة، وكان الخلاف قد ظل قائمًا عشرة أشهر، انتهى بتوسيط الحكومة الأنبا كيرلس مطران الأرمن الأرثوذكس بالقاهرة في الصلح بين الفريقين، ولم يوفَّق أولًا، لكنه أعاد الكرة ونجح أخيرًا في إقناع الطرفين برسامة القس داود مطرانا عاما أو مطرانا لبابليون على رأى بعضهم، فإن ثبتت كفاءته قلدوه البطريركية بعدئذ، وان لم تثبت فيظل مطرانا لمصر، ويتجه الأقباط بعد ذلك إلى مرشح آخر، ثم كتبت له تزكية بذلك ووقع عليها كل من: الأنبا صرابامون أسقف المنوفية، الأنبا ابرام أسقف أورشليم، الأنبا باكوبوي (ياكوبوس - يعقوب) أسقف المنيا والاشمونين، الأنبا أثناسيوس أسقف منفلوط، الأنبا مكاريوس أسقف أسيوط، الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم، الأنبا إبرام أسقف قنا وقوص، الأنبا ميخائيل أسقف إسنا، الأنبا اسحق أسقف الفيوم والبهنسا والجيزة.
ومن رؤساء الأديرة: القمص عبد القدوس رئيس دير السريان، والقمص حنا رئيس دير البراموس، والقمص جرجس كاهن دير أبو مقار وإذ كان جماعة الأحباش لا يحبون القس داود ولم يرضوا عن رسامته اجتمعوا مع بعض العامة وبأيديهم العصي ودخلوا الكنيسة قبل إتمام الرسامة، وصاحوا في وجوه المصلين بالسب والشتم، واشتد الهياج، فهرب الأساقفة، وتعقب الأحباش القس داود ليقتلوه فاختفي، ولكن الكتلة كانت قد اتحدت على رسامته مطرانًا، فرشم في اليوم الثاني باسم كيرلس وكان ذلك في يوم 10 برمودة 1569 / 1853 م.
وقد لاقى في أيامه هذه أسوأ معاملة وأسوأ مقابلة (فقام خصومه وحالوا بينه وبين إنجاز مصالح الطائفة، واشتدوا عليه شدة بالغة، حتى كان إذا أراد النوم لا يجد لرأسه وسادة ينام عليها، ولا لجبينه فراشا، وإذا جاع لا يقدمون طعامًا إلا ما يسمحون به له، وإذا زاره احد لا يسمحون له بلقاؤه، أما هو فكان ساكن البال، رائق الحال لا يألوا جهدا في تأليف القلوب المتفرقة والنفوس المتنافرة، حتى طرحوا الخلاف جانبا، ومنذ ذلك الحين أخذ يباشر أعمال الطائفة.
بعد أن استقر الأنبا كيرلس في منصبه كمطران عام لجميع تخوم الكرازة المرقسية بدأ بهمة لا تعرف الكلل في تنفيذ مخططه الإصلاحي دون حساب لما يدور حوله، فوجه اهتمام إلى نشر التعليم بين أبناء شعبه، وكتب في ذلك منشورا مطولا ينتقد فيه طرق تعليم النشء في الكتاتيب التي يديرها عرفاء فاقِدوا البصر، وجعل يحث الأراخنة والمعلمين وأرباب الحرف على المساهمة في جمع المال لإنشاء المدارس النظامية لتهذيب البنين والبنات ونشر المعارف الصحيحة في كل البلاد، فاستجاب الشعب لرغبته وانهالت العطايا عليه، فبلغ ما جمعه من تبرعات لهذا المشروع 44106 فرشًا، وبالطبع كان لهذا المبلغ قيمته في تلك الفترة.
وكان أول عمل باشره هو بناء المدرسة الكبرى للأقباط وكانت إلى فترة وجيزة موجودة في فناء البطريركية القديمة بالدرب الواسع، كما اشترى عدة منازل وهدمها وأقام على أنقاضها مدرسة مسيحية ويقال أنه أنفق في بنائها 600 ألف قرشًا، فكان بناؤها موجبا لإجماع الجميع على اختياره بطريركًا، وطلبوا من قنصل انجلترا معاونتهم على ذلك لدى عباس باشا الأول، واخذ فعلا موافقته بحضور الأساقفة ما عدا أسقفي أخميم وأبو تيج ورسم بطريركا ولقب بكيرلس الرابع في 28 بشنس 1570 س / 1854 م.
ومما هو جدير بالذكر أن الذين كانوا يوصَفون بالزايرجة وأصحاب الطوالع الفلكية من مرشحي الأنبا يوساب كما أسلفنا أشاعوا انه لو جاء كيرلس بطريركًا فسوف يكون شؤمًا على حاكم البلاد، وتلعب الصدفة دورها ويقتل عباس الأول في قصره بينها في 14 يوليو 1854 أي بعد رسامته بطريركًا بأربعين يومًا فقط، فعمد البعض إلى تصديق هؤلاء الدجالين!
وكان من إصلاحاته المبكرة أيضًا أن أصدر أيام أن كان مطرانا على مصر منشورا في 23 أغسطس 1853 يوصى فيه بالآتي:
1- منع الكهنة من عمل عقد أملاك عند إجراء الخطوبة حتى تترك فترة للتعارف.
2- تحذير الكهنة من تزويج البنات القاصرات.
3- تحذير تزويج النساء المترملات المتقدمات في السن من الشباب.
4- تحتيم أخذ رضاء وموافقة الزوجين قبل الإكليل المقدس.
ولما تمت رسامته بطريركًا باحتفال عظيم قدمت عليه الوفود للتهنئة، أما هو فسعى لجمع قلوب الناس على المحبة وإزالة أسباب النفور حتى تم له ما أراد، ثم عكف على العمل لما فيه رقى الأمة القبطية، فنظم إدارة البطريركية والأوقاف، وأتم بناء المدرسة ليجعل التعليم في متناول الجميع بعد أن كان قاصرًا على مدارس الدولة التي كان قد أنشأها محمد على واقتصرت على أبناء الوجهاء، وبعد جلوسه على الكرسي البابوي وسع مساحتها حتى تستوعب أكبر عدد من التلاميذ وافتتحها رسميا بحضور وجهاء الدولة في سنة 1855، وكان يقوم بكل مطالب التلاميذ من دفع مرتبات المدرسين واختارهم من المهرة في تعليم اللغات الحية من عربية وتركية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية مع كافة المواد الأخرى التي أقرتها برامج المدارس الحكومية، وجعل فيها التعليم والكتب والأدوات بالمجان.
ومن شدة اهتمامه بها كان يزور غرف التدريس دائما كل يوم مرة أو مرتين، ويستمع لإلقاء المدرسين للدروس، ثم أنشأ بالمدرسة قاعة يستقبل فيها الزوار لاسيما الأجانب الذين كان يكلفهم بفحص غرف التدريس وإبداء ملاحظاتهم عليها وما يؤول لنجاحها.
وكان يقوم هو نفسه بإلقاء بعض الدروس التاريخية والأدبية على الطلبة مما يناسب إدراكهم وسنهم، وجعل تعليم اللغة القبطية إجباريًا مع الإشراف على ذلك بنفسه، وإذ رأى أن بعض الطلبة من جهات بعيدة يتكبدون مشقة الحضور إلى المدرسة أنشأ لهم مدرسة بحارة السقايين كان يزورها كل أسبوعين، كما أنشأ بحارة السقايين مدرسة أخرى للبنات فكانت أول لفته في مصر لتعليم البنات، حيث كانت البنات تعانى من قبل من الجهل وعدم العناية بها.
و قد وجه عنايته إلى ترميم الكنائس وإعادة ما تخرب منها فأعادها إلى ما كانت عليه، ولما رأى صعوبة تحمل مساكن حارة السقايين والجهات القريبة منها المشاق لحضور الصلاة في الكنيسة المرقسية بالأزبكية سعى لدى سعيد باشا سنه 1572 ش. ليحصل على إذن ببناء كنيسة في تلك الجهة فصدر له في 5 ربيع الأول 1272 هجرية، فكرس مكانا بمنزل رجل شهرته القيصاوى ليكون كنيسة إلى حين التمكن من بناء جديد، وأقام أول صلاة شكر في تلك الكنيسة وبقيت كذلك إلى أن بنيت الكنيسة الحالية في عام 1881 م. أما كنيسة البطريركية بالدرب الواسع بالأزبكية فقد وجد مبناها الذي كان قد بناه المعلمان إبراهيم وجرجس الجوهرى ضيقًا متواضعًا، وأن عمارتها ضعفت ومهدده بالانهيار فقام بهدمها من أساسها ووضع تصحيحًا يليق بكاتدرائية كبرى تليق بمركز الرئاسة وترفع من شأن قومه أمام الجاليات الأجنبية، واحتفل بوضع أساسها يوم الخميس 6 مايو 1858 بحضور كثيرين من وجهاء مصر وكبار رجال الدولة، إلا انه مات أثناء بنائها فأكملها خليفته ديمتريوس الثاني.
و عقب هذا التقدم والنجاح العلمي والديني، وجه نظره نحو إنشاء مكتبة تجمع الكتب النفيسة، فوجد في الدار البطريركية كثيرا من الكتب المهملة دون عناية، وبها كتب نفيسة للغاية، فجعل يصلح نظمها وتنظيمها ووضعها في مكان خاص بها أخذ يجمع من خزائن الأديرة الكتب الثمينة والسجلات المهمة لوضعها في المكتبة، كما أمر بتصحيح الكثير من كتب الكنيسة، حيث كانت تضم كثيرا من الحشاوي والتخاريف فأصلحها وضبطها
و عندما انتظمت مدارس البنين والبنات التي أنشأها، رأى أن رسالتها لا تكتمل إلا بوجود مطبعة تتولى طبع الكتب المدرسية، وما تحتاج إليه الكنيسة من الكتب الدينية على اختلاف أنواعها، وكانت حتى ذلك الحين تعتمد على الكتب المخطوطة التي حرفها النساخ أو كتبوها بخطوط رديئة تصعب قراءتها، فكلف صديقًا له يدعى رفلة عبيد الرومي بشراء مطبعة من أوربا وفعلا حقق له رفلة رغبته واشترى له مطبعة من إيطاليا، وصلت ميناء بولاق وكان يومها في دير الأنبا انطونيوس بالصحراء الشرقية، فكتب إلى وكيل البطريركية بالقاهرة بأن يستقبلها في زيه الكهنوتي ويكون الشمامسة بملابسهم الكهنوتية، وهم يرددون ألحان الفرح والسرور، ولما عابه البعض على ذلك بعد مجيئه من البرية، أجابهم لو كنت حاضرا فور وصولها لرقصت أمامها كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد.
و قام بتوسيع بعض الأديرة مثل دير السريان، وأرسل من قبله عمالا قاموا بقطع الأحجار من هضبة مجاورة، وزودهم بعربة لنقلها ونقل مواد البناء ومستلزماتها أثناء العمل.
و نظرا لما كان يعرفه من خطورة بعض الكهنة وتأثير المادة عليهم، بدأ يصلح أحوالهم المعيشية وربط مرتبات شهرية لبعضهم حتى لا تقف المادة عائقا لخدماتهم، وبدأ في عمل مدرسة إكليريكية لتعليمهم.
و كان راهبا صلبا، ولكنه بجانب عطفه على الرهبان الذين اختاروه رئيسًا لهم في الدير، إلا أنه كان قاسيًا عليهم ليحد من حريتهم، فكان خشنا وسمى (أبو نبوت) فلم يسمح بخروج الراهب من ديره إلا للضرورة.ومن أقواله في هذا ما معناه: "من يختار ثوب الرهبنة مات عن الدنيا ودفن نفسه بمحض إرادته، بدليل أنهم يصلّون عليه صلاة الموتى؛ فهل يخرج ميت من قبره؟ الرئيس الذي يأذن للراهب في الخروج من ديره يكون قد أخرج ميتًا من قبره وعليه وزره".
وأيضا كانت المرأة تعد من سقط المتاع، إلا في مجال الأمومة، فجاء البابا كيرلس الرابع ليغيرها، فأصبحت شريكة الرجل في كل أطوار حياته، وعمل على تعليمها وتهذيبها في مدرسة خاصة بها وكانت الأولى في مصر، وقد اقتدت الحكومة به، ونظرت إليه كرائد اجتماعي وفتحت بعده مدارس البنات، كما حفظ للمرأة كرامتها فلم يكن يسمح بالطلاق إلا لعلة الزنا تطبيقا لمبدأ الإنجيل، كما كان يوصي أولاده المسيحيين بعدم التفريق بين الاثنيّ والذكر في الميراث فهم سواء لأن الله لا يميز بين روح الرجل وروح المرأة.
ومن الأعمال النافعة التي حققها أنه أقنع الحكومة باستعمال التاريخ القبطي، وقال في ذلك صاحب كتاب التوقيعات الإلهامية (في ابتداء 21 شوال سنه 1271 هـ. استعملت التواريخ القبطية بحسابات مصر) أي من أول أبيب 1571 شهداء الموافق 7 يوليو 1855، وبقى مستعملًا إلى أن أبدل بالتوقيت الإفرنجي من أول ديسمبر 1875 م.
ومن تأثيره كذلك أنه نهض باللغة القبطية، وأصلح النطق بحروفها بمساعدة أحد مدرسي اللغة اليونانية في المدرسة العبيدية، فنبغ في مصر وقتها كثيرون كان في مقدمتهم، المعلم عريان جرجس مفتاح - القمص فيلوتاوس إبراهيم عوض - برسوم إبراهيم الراهب - فانوس ميخائيل جرجس - الدكتور إبراهيم بك حلمي من مركز صحة السويس.
ولما صدر الفرمان السلطاني في 18 فبراير سنه 1856 بمساواة كل المواطنين والتمتع بكافة الحقوق، قام البابا كيرلس الرابع وتقدم إلى الوالي يطلب منه تطبيق نصوص الفرمان على جميع المصريين فوعده الباشا بذلك، ولكن عندما رآه يماطل في تنفيذه استاء من تهربه وَتَوَجَّه إلى دير الأنبا انطونيوس ومعه الأنبا كلينيكوس بطريرك الروم الأرثوذكس الذي كانت تربطه به صداقة قويه، ومكثا هناك قرابة ستة أشهر، فانتهز قنصل فرنسا هذا الخلاف وعرض على البطريرك تسوية الأمر بينه وبين أمير البلاد شريطة أن يسمح للرهبان اليسوعيين بتأسيس مراكز تبشيرية في الحبشة إلا أن البابا رفض هذه الوساطة التي لا تتفق ومصلحة الكنيسة.
عندما تولى سعيد باشا الحكم واجهته مشاكل متعددة فيها الجيش والتجنيد، فجعل التجنيد إجباريا على كل المصريين، وَشَنَّ نظامًا للاقتراع يدعى بموجبه كل المصريين بلا فارق بينهم لحمل السلاح حتى الأقباط، وقد رحب البابا كيرلس بهذا ليكون القبطي مواطنا لأخيه المسلم ويكون هذا مُبررًا لرفع الجزية التي كانت تدفع بدعوى الدفاع عن المسيحيين، وان كان الأقباط قد خافوا ووقعوا ضده في هذا، إلا أنه استمر في موقفة وشجع سعيد باشا على هذا، ليكون للمسيحي شرف الجندية وشرف المواطنة كمصري
و حدث انه وقع في أيام البابا كيرلس الرابع خلاف بين الحكومتين المصرية والحبشية بسبب تعيين الحدود بينها، وقيل أن السلطان عبد المجيد العثماني هو الذي أوعز إلى سعيد باشا خديوي مصر بأن يرسل بطريرك الأقباط إلى البلاد الحبشة لعقد اتفاق بينه وبين ثيودور ملك الحبشة الذي كان قد تعدى على بعض نقاط الحدود في إقليم هرر وحدثت مشاكل للتابعين في ذلك الوقت للحكومة المصرية العثمانية، فجهزت له باخرة، وقام البطريرك بهذه المهمة السياسية بدون أن يدرى به أحد إلا الذين رافقوه في السفر وبعض خدامه، وألفت النظر هنا إلى أن الكنيسة القبطية لا تعمل بالسياسة أصلا ولا تتدخل فيها إلا إذا طلب منها، وأن تنفيذها للسياسة في حدود ما تكلف به فقط ويقود إلى حياتها الدينية كما هو موضوع بها.
وقد سافر البابا كيرلس الرابع رغم أن السفر كانت تعلوه الكآبة ويشوبه التشاؤم من هذه السفرية، وكان يرافقه اثنان من أغوات المنزل (جمع أغا)، فانتهز فرصة طول السفر وتعلم منهم التركية.
ولما علم النجاش بقدومه خرج لملاقاته بموكب حافل على مسيرة ثلاثة أيام من عاصمة مملكته، وطلب منه أن يمسحه ملكا بحضور جميع ملوك الحبشة، وكان في الحبشة بعض من المرسلين الإنجليز المرسلين من (جمعية التبشير بالإنجيل) لبث تعاليم ما رتبه لوثر كينج البروتستانتية بين الأحباش، وقد تقربوا من النجاش بعمل المدافع وصنع الأسلحة لحبشة، وتعليمهم فنون الحرب والقتال، حتى سأل إليهم وأعطاهم الحرية ليجولوا في كل مكان، فكانوا يعبثون بطقوس الكنيسة القبطية، ولم يفلح مطران الحبشة في مقاومتهم، فانتهز فرصة وجود البطريرك ورفع أمرهم إليه، فبعد انقضاء الأفراح طلب البطريرك من النجاش أن يرد لبلاد مصر ما أخذه منها، فأجابه إلى طلبه بسرور زائد، ثم كلمه بشأن المرسلين الإنجليز وطلب منه ترحيلهم، فاعتذر بكونهم يعلمون جنوده فنون الحرب، فأفهمه أن الحال غير داعية للحرب، فأمر النجاش بإخراج المرسلين من بلاده، فحقدوا على البطريرك وعملوا على الانتقام منه.
و لما كان البطريرك قد بعث يطلب من سعيد باشا أن يسير إليه بعض الصناع والمعلمين، فدس إليه قنصل الإنجليز بأن كيرلس هذا يريد أن يسلم بلاده إلى النجاش، وما زال سعيد باشا حتى قام إلى الخرطوم بجيش عظيم، وفي الوقت نفسه كان الإنجليز يحيكون مكيدة أخرى ضد كيرلس لدى النجاش، فدسوا عليه أنه قدم لطرد الإنجليز الذين كانوا يعدون لك الآلات الحربية ليمكن والي مصر منه، وقد حمل إليه من قبل سعيد باشا كسو (كساء) مسموما إذا ما لبسته قضي عليه! وكان فعلا من بين الهدايا التي قدمها البابا كيرلس للنجاش برنسا مزركشا بالجواهر الكريمة فهاب النجاش الأمر، لاسيما لما علم بقدوم سعيد باشا بجيشه إلى الخرطوم، فأمر بسجن البطريرك وضيق عليه الخناق، وخشية من أن يفلت البطريرك، ويمسح ملكا آخر للحبشة سواه، اصطحبه معه، فكان يسوقه أمامه في كل مكان يحل به محاطا بالحراس وكان إذا جلس يقف أمامه، ويبكته بأغلظ الألفاظ.
فتمكن البابا من أن يصل إلى والدة النجاش، وكانت تقية ورعة، وأفهمها بحقيقة الأمر، فتوسلت إلى ولدها من جهته، فسمح له أن يدافع عن نفسه، فتمكن من إقناعه بجليل مقاصده، ومن ثم طلب أن يلبس الثوب الذي ارتاب فيه فلبس البطريرك مدة يومين دون أن يصاب بأذى، ولبسه رجل محكوم عليه بالإعدام مدة ثلاثة أيام فلم يصبه سوء، وكان النجاش قد أمر بحرم البطريرك حيا، فعفي عنه، وأرسل البطريرك إلى سعيد باشا أن نجاحه متوقف على رجوعه من حيث أتى، فرجع سعيد باشا إلى مصر بقواته من الخرطوم، وهنا عرف النجاش حقيقة الموقف، واعتذر للبطريرك على سوء فعلته وذلك برفع حجر على رأسه كعادة الأحباش وكان قد مر أكثر من سنه منذ خرج الأنبا كيرلس من مصر ولم يرد عنه خبر أو يسمع عنه شيء، وكان الناس قد قلقوا عليه كثيرًا، وبعد سنه وأربعة أشهر حل مكتوب منه ينبئ بأنه وصل إلى الخرطوم ومعه اثنان من رجال حكومة الحبشة، أحدهما قسيس الملك والثاني وزيره، فسر الشعب بعد أن ظنوا أنه مات، ووصل إلى القاهرة في 17 أمشير 1574 ش. وقد استقبل استقبالا عظيما.
لم ينسى الإنجليز له موقفه هذا فدبروا له مأساة محزنه لقاء إيعازه للنجاش بطرد تابعيهم من الحبشة، ولم يمكنهم من أخذ السلطان، كما اشتد غيظ الإنجليز عندما علموا أنه ينوى توحيد الكنائس الأرثوذكسية، فبعد رحيل وزير نجاش إلى الحبشة شعر البابا كيرلس بتغير محمد سعيد باشا عليه واتفق انه اصطحب معه بطريركي الروم والأرمن إلى دير القديس انطونيوس فانتهز القنصل الإنجليزي ودس له عند سعيد باشا بأنه يريد توحيد الكنائس تحت حماية روسيا التي كانت مكروهة من السلطان ومن سعيد باشا، فأرسل سعيد باشا إلى مدير مديرية بنى سويف يأمره بأن يستدعى البطريرك فورا، فاستمهله أيامًا، فاشتد غيظ سعيد باشا، ويروى التاريخ أنه كان في أحد الأيام أن جاء إلى البابا رسول من قبل محافظ مصر يستدعيه إلى الديوان لأمر لا يتم إلا بحضوره، فلم يقبل الذهاب، وصرف هذا الرسول بالحسنى فعاد إليه مرة ثانية وثالثة، فلم ير البابا بدا من الذهاب، واصطحبه وغاب ساعة وعاد ووجهه يقطر منه العرق، وقد نزلت به حمى، فعرف العلة وأشار بالدواء، فلم يأته حتى أتاه طبيب محمد باشا بأمر منه، وأخذ في علاجه، وظل يعالجه أيامًا، وقد اشتدت عليه الحمى وعظم مرضه، وفقد الرشد وسقط شعر رأسه ولحيته على وسادته وانحل جسده.. ومات.
ويروى من كانوا حوله، أنه لم يقبل السم في القهوة لأنه سمعهم يتكلمون بالتركية وكان يفهمها، ورجع إلى قلايته حزينًا، حتى حضر إليه كل من صديقه ربيب الأرمن والخواجة حنا مسرة وأحضرا له طبيبًا قالا عنه أنه أمين، ولكنه دَسَّ له السم في الدواء، ولما شعر به يمزق أحشاءه من الألم سَلَّم أمرهُ لله وجعل يُرَدِّد: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، بل خافوا مَنْ يقتل النفس".
وكانت وفاته في ليلة الأربعاء 23 طوبه 1577 ش. / 1861 م. ودفن بقبره الذي كان قد بناه لنفسه بالكنيسة الكبرى، بعد أن قدم للكنيسة ولمصر كل هذه الأعمال الجليلة والإصلاحات الكبيرة ومن ثم دعي (أبو الإصلاح)
بركه صلاته تكون معنا كلنا امين...
ولالهنا المجد دائما ابديا امين...